أسامة غريب يكتب: شكسبير الساخر السخيف!

عداوات المبدعين معروفة ويمكن تفهم أسبابها مع إدراك عوامل الغيرة والتنافس بين مَن ينشأون فى مكان وزمان واحد ويرغب كل منهم فى الاستئثار بالمجد والشهرة والمال. وربما يمكن أن يفسر هذا ما نعرفه عن شعور الموسيقار النمساوى سالييرى نحو موتزارت، وكذلك يمكن الحديث عن الاشتباكات بين فيكتور هوجو وسانت بوف، وبين لويس أراجون وأندريه جيد.
وفى بيئتنا المصرية لا يغيب عن بالنا الامتعاض المتبادل بين الشاعر أحمد فؤاد نجم ومجايليه من أمثال سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودى، وكذلك الصدمة التى أحس بها يوسف إدريس بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل وكيف أخرجه الغضب عن حدود اللياقة فتقوّل فى حق محفوظ بما لا يليق.
أما الأمر الغريب فهو العداوة والكراهية التى يحملها أديب كبير ملأ الدنيا وشغل الناس فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لشاعر وأديب كبير عاش فى القرن السادس عشر بفارق ثلاثمائة سنة، بحيث ينتفى التنافس والغيرة الفنية بينهما، ومع ذلك فإن هذا ما حدث من الأديب الروسى ليو تولستوى تجاه وليم شكسبير الرمز الأدبى الخالد فى كل العصور.
من المعروف أن الأدباء الروس فى القرن التاسع عشر وما تلاه كانوا يحملون تقديرا كبيرا لشكسبير، بل إن بعضهم كان يعتبره بمثابة المعلم والملهم مثل الشاعر بوشكين مثلا. ومع ذلك فإن «ليو تولستوى» صاحب «أنا كارنينا» و«الحرب والسلام» كان له فى شكسبير رأى آخر عبّر عنه فى مقال كتبه عام 1903 اعتبر فيه شاعر الإنجليز كاتبا تافها لا قيمة له!..
ليس هذا فقط وإنما أضاف ما نصه: ما زلت أذكر الخيبة التى تملكتنى عندما قرأت شكسبير للمرة الأولى، كنت أتوقع أن أحس بروعة وجمال أعماله، وبعد الانتهاء من قراءة أفضل ما كتب برأى النقاد: الملك لير، هاملت، ماكبيث إلخ لم أشعر مطلقا بالاندهاش المرجو.. على العكس، كان ما شعرت به هو الاشمئزاز والاستخفاف بتلك الأعمال لدرجة أننى سألت نفسى بعدها: هل أنا عديم الإحساس وغير قادر على تذوق أدب يعتبره النقاد والقراء أقرب للكمال؟ أم أن رؤية هؤلاء لأدب شكسبير تتسم بالسطحية ومتأثرة بالدعاية!
كانت المقالة صادمة وغير مألوفة، إذ لم يسبق لأحد قبل تولستوى أن اعتبر «تبجيل شكسبير عبارة عن لقاح ثقافى أعطى للجميع دون موافقتهم، ولا يمكن إيجاد الناس ذوى العقول الحرة الذين لم يلقحوا بعبادة شكسبير فى مجتمعنا المسيحى، فكل رجل فى مجتمعنا وفى وقتنا ومنذ أول حياته الواعية لقح بفكرة كون شكسبير عبقريا وشاعرا وكاتبا مسرحيا، وأنّ جميع كتاباته قمة فى المثالية».
رأى غريب جدا لم يسبق أن قال مثله أحد قبل تولستوى، ولا شك أن أساتذة الأدب الإنجليزى فى جامعات الشرق والغرب قد صدمهم هذا المقال، ذلك أن قسم الأدب الإنجليزى فى أى جامعة يقوم بالأساس على تدريس أعمال شكسبير قبل أى كاتب إنجليزى آخر.
ولقد كانت أكثر الأعمال التى حظيت بنقمة تولستوى من كتابات شكسبير هى «الملك لير» إذ رآها متكلفة، مليئة بالادعاء وليس بها أى شىء منطقى.
العجيب أن هذا الرأى الصادم لم يجد أحدا يرد عليه فى حياة تولستوى، لكن الأمر احتاج إلى ما يقرب من أربعين سنة قبل أن ينبرى «جورج أورويل» لكتابة مقال عنوانه «تولستوى وشكسبير» قام فيه بتفنيد الكثير من مكونات رأى تولستوى.
بعد كتابة أورويل لمقاله انبرت بعض الأقلام تتهمه بالتحيز، لكننى لا أويد الرأى القائل بأن أورويل انحاز لابن وطنه أو انحاز للأدب الإنجليزى فى مواجهة الأدب الروسى، لأن المقال لم يكن يقارن بين أعمال أدبية للكاتبين وإنما تناول رأيا رآه غير منصف فى حق شكسبير.
وقد عزا أورويل غضبة تولستوى من الملك لير بالذات لأن تولستوى نفسه يشبه لير الذى تنازل لأبنائه عن السلطة والمال، ذلك أن الأديب الروسى قد تنازل للفلاحين عن أرضه بالكامل.
يعتقد جورج أورويل أنه لا يحق لك أن تتنازل عن المُلك ثم تطلب من الناس أن يعاملوك كملك، ويعتقد أيضا أن تولستوى ظن أن تبرعه وتنازله عن ممتلكاته قد يمنحه السكينة والسعادة، غير أن هذا فى الواقع لم يحدث وظلت روحه القلقة تؤلمه وتقض مضجعه.
ولم ينس أورويل مع ذلك ورغم اختلافه مع تولستوى أن يشير لأهمية مقاله لأنه نزع القداسة عن شكسبير وأنزله منزلة من يجوز نقده وتجريحه، وهذا فى حد ذاته أمر طيب.
ترى هل نستطيع أن نتقبل رأيا كهذا من ناقد أو أديب عربى أو أجنبى فى طه حسين أو نجيب محفوظ مثلا، أم ينطلق الألتراس الثقافى واللجان الإلكترونية تصفه بأن أمه يهودية وأبوه أرمنلى؟