ذكري وفاة خورخي لويس بورخيس: مؤلف المتاهات واللغة والأحلام

«لطالما تخيلتُ أن الجنة ستكون مكتبة».. هكذا عبر الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عن محور حياته الذي لم يكن يوما إلا الكتب والقراءة والكتابة.
ونحاول في ذكرى رحيله -ولد بورخيس في 24 أغسطس من عام 1899 ورحل في 14 يونيو من عام 1986- استعادة ذلك المحور بشيء من تسليط الضوء عليه.
لا يمكن تلخيص حياة خورخي لويس بورخيس في بضع كلمات، إذ وُلد بورخيس في بوينس آيرس بالأرجنتين، واختار أن يعيش أغلب سنواته بين أروقة الكتب ولغات البشر وأساطير الشرق والغرب، حتى صار هو نفسه أسطورة تتناقلها أجيال الكتّاب والقُرّاء على السواء.
ونشأ بورخيس، في بيتٍ كان الكتاب فيه رفيقا دائما كان والده محاميا وأستاذا لعلم النفس حاول أن يصبح كاتبا ولكنه لم ينجح في ذلك، وكتب رواية، وحاول كتابة الشعر، وترجم رباعيات من شهر الخيام، وتعلمت والدته الإنجليزية من زوجها لتعمل مترجمة، والبيت كان به مكتبة ضخمة نشأ خورخي بينها؛ لذلك ليس من الغريب أن يشب بورخيس على حب الأدب والقراءة.
وخلال الحرب العالمية الأولى، انتقلت العائلة إلى أوروبا للعلاج من مرضٍ أصاب والده بضعف البصر، وهو ذات المرض الوراثي الذي سيرثه بورخيس لاحقا في شيخوخته، وفي أوروبا درس الأدب وتشرب من تيارات الحداثة والرمزية والوجودية، وأتقن الألمانية والفرنسية، وعاد إلى بوينس آيرس بعد نهاية الحرب ليصبح صوتا جديدا في الأدب الأرجنتيني.
وفي بداياته، كتب الشعر أولا متأثرا بالشعر الرمزي الأوروبي والشعر الإسباني القديم، ثم سرعان ما انتقل إلى كتابة المقالات والقصص القصيرة التي ستصبح لاحقا توقيعه الأبرز، لم يكن بورخيس يكتب القصة على النحو التقليدي، بل كان يحوّل الأفكار الفلسفية العميقة إلى بنية سردية محكمة؛ قصة تبدو بسيطة لكنها تخفي عوالم متراكبة من التأويلات.
ومن المدهش في عالمه أنه كان شديد الولع بتراث الشرق، وعلى رأسه «ألف ليلة وليلة» التي قرأها صغيرا وانبهر بسحرها ولانهائيتها، لم يعتبرها كتاب حكايات وحسب بل نموذجًا حيا لكيف يمكن للسرد أن يتكاثر بلا حدود، وأن تولد الحكاية من بطن حكاية أخرى إلى ما لا نهاية.
وترجم بورخيس، بعض قصصها إلى الإسبانية وكتب عنها مقالات، وظهرت روحها في قصصه التي تتداخل فيها العوالم وتتشابك الحكايات مثل حلم داخل حلم.
من «الألف» إلى «تاريخ عالمي للخزي» و«التخيلات» و«كتاب الرمل»، قدّم بورخيس، قصصا لا تزال تذهل القراء بقدرتها على اللعب بالواقع والزمن والهوية، تظهر فيها المرايا كرمز مقلق، والمتاهات كعقدة فلسفية، والمكتبات كأرضٍ مقدسة، يكتب عن اللغة ككائن حي، وعن الترجمة كإبداع مستقل، وعن الزمن كدوامة دائرية لا تترك أحدا إلا التهمته.
لم يكن بورخيس، منعزلا عن السياسة رغم طبيعته الفكرية الخالصة، فقد تولى مناصب ثقافية مهمة أبرزها إدارة المكتبة الوطنية في بوينس آيرس، وهو المنصب الذي رآه تجسيدا لحلم قديم، والمفارقة المؤلمة أنه صار في ذلك الوقت أقرب لكفيف تماما أثناء إدارته للمكتبة؛ لأن بصره كان في أضعف مراحله مثلما حدث مع والده تماما، ولكن ذلك لم يمنع بورخيس من مواصلة القراءة والكتابة، بل والإلهام من هذا العمى.
وامتد تأثير بورخيس، إلى ما وراء حدود الأرجنتين بل تعدّى حدود اللغة الإسبانية كلها، وكتب عنه نقاد أوروبا وأمريكا، وأثّر في روائيين كبار مثل غابرييل غارسيا ماركيز، وأمبرتو إيكو، وإيتالو كالفينو، ولم يحصل رغم ذلك على جائزة نوبل للآداب، وهو حرمان أثار جدلا طويلا حول معايير الأكاديمية السويدية التي لم تمنح الجائزة لرجل علم العالم كيف يكتب «اللايقين» كفن.
ورغم ضعف بصره الذي ربما وصل حد العمى، لم يتوقف بورخيس، عن التأليف والمحاضرات والأسفار، وبقي إلى آخر حياته يزور مكتبات العالم ويقرأ على مسامع جمهوره قصائد عن الحب والعدم والخلود، وكان يردد دائمًا أنه يتمنى أن يبعث بعد الموت في مكان واحد “مكتبة لا تنتهي”.
وتوفي خورخي لويس بورخيس، في جنيف عام 1986، تاركا خلفه إرثا يتجاوز القصص والقصائد، وترك خرائط للمتاهة التي تحيط بالحياة، ومرآة يرى فيها كل قارئ نفسه منعكسًا في لغته وأحلامه، وفي كل مرة نعيد فيها قراءة بورخيس، ندخل متاهة جديدة ونختبر يقينا واحدا أن الأدب أعظم من أن يُحاصر بكلمة «نهاية».