المنسي.. سيرة فلسطين التى ترفض الزوال.. كتاب جديد للمحامي والناشط الفلسطيني رجا شحادة وزوجته
أشادت به صحف عالمية قائلة: «المنارة التى تتتوهج فى وجه الظلام الإسرائيلى»
الكتاب يوثق أبرز الآثار الفلسطينية القديمة والحديثة التى تعكس روح الثقافة فى وجه المحتل الذى يحاول محوها
عاد المحامى وناشط حقوق الإنسان وواحد من أبرز كُتاب النثر الفلسطينيين – رجا شحادة – إلى الساحة الأدبية بكتاب جديد يتّسم بالتعقّل والرصانة وسط عالم اليوم شديد الاستقطاب فيما يخص السياسة العربية – الإسرائيلية؛ فمنذ كتابه الأول «عندما توقف البلبل عن الغناء» الذى وثّق حصار رام الله عام 2002، مرورًا بـ«سرحات فلسطينية» الحائز على جائزة «أورويل» عام 2008 والذى تتبع فيه كيف غيّرت السيطرة الإسرائيلية الفعلية على الضفة الغربية معالم الجغرافيا والتاريخ، ظل «شحادة» كاتبًا يعالج الذاكرة الفلسطينية بإصرار وتأمل مثيرين للإعجاب.
وفى العام الماضى، وبعد هجمات 7 أكتوبر نشر «شحادة» كتابه «مم تخشى إسرائيل؟»، الذى جاء فى جزءين: الأول تحليل متزن لتسلسل الأحداث التاريخية، والثانى صرخة غاضبة ومريرة توثق الدمار الذى حلّ بغزة. وقد بدا فيه رجلا أرهقته العقود من الانخراط فى القضية، حتى استسلم – على نحو مأساوى – لليأس.
ولكن فى كتابه الجديد «المنسى» الصادر باللغة الإنجليزية فى السادس من شهر مارس الماضى، وجدنا شيئًا مختلفًا؛ وجدنا «شحادة» حاضرًا، ودقيقًا، ومتيقظًا لثقل التاريخ وتقلباته ومآسيه ولكن بدون الاستسلام لليأس، وربما يُعزى هذا التغيير إلى شراكته فى الكتاب مع زوجته، الباحثة الأكاديمية بينى جونسون. .
وجاء الأسلوب فى الكتاب الجديد دقيقًا ومليئًا بالمعلومات القانونية التى تنم عن الجهد الكبير الذى بذله المؤلفان فى البحث، كما أضفى التعاون بينهما على النص قوة متفردة؛ فالضمير الجمعى المستخدم فى السرد يُكسب النص قربًا وحميمية بالنسبة للقارئ، فى حين تشير الإشارات العرضية إلى «رجا» و«بينى» بصيغة الغائب إلى وعى بأنهما ليسا مجرد رواة أو شهود، بل هما جزء من هذه المأساة التاريخية.
وهناك بعض التماثلات بين ذلك الكتاب والكتاب السابق «سرحات فلسطينية»، الصادر عن دار النهضة للنشر فى مصر، لكن هذه المرة هناك هدف واضح؛ حيث سعى المؤلفان للبحث عن أدلة على الوجود الثقافى الفلسطينى فى الضفة الغربية من خلال الآثار القديمة والحديثة التى تعكس روح الثقافة الفلسطينية التى ازدهرت آلاف السنين، والتى تقف – جميعها – نُصُبًا تخلّد معاناة من سكنوا هذه الأرض.
وترددت أصداء الكاتب الألمانى، فى. جى. سيبالد، فى النص، ليس فقط فى أناقة اللغة الحزينة، بل أيضًا فى طريقة التأمل والتنقيب فى التاريخ الممزوج ببراعة مع الجغرافيا، وكما كان «سيبالد» يتتبع إرث الإمبراطورية الإنجليزية فى كتابه «حلقات زحل»، تتبع الكاتبان هنا حقيقة فلسطين المحتلة فى أن العنف لا يُدفن فى الماضى؛ لأنه حاضر ومستمر حتى يومنا هذا.
وعبر صفحات الكتاب، تساءل المؤلفان: «كم من الأرواح كان يمكن الحفاظ عليها لو أن الحكومة الإسرائيلية منعت المزيد من الاستيطان؟»، كما تطرقا إلى مدينة نابلس لرؤية كيف يخلّد الفلسطينيون موتاهم الذين وقعوا ضحية لذلك الصراع الذى يبدو أزليًا.
وفى جوهر أعمال «شحادة» – وفى صميم هذا الصراع – تكمن فكرة السياسة الحيوية (Biopolitics)، كما تناولها كل من الفيلسوف الفرنسى «فوكو» والفيلسوف الإيطالى «أجامبن»؛ ففى «المنسى»، كما فى «سرحات فلسطينية»، نرى كيف يُعاد تشكيل الجغرافيا والتاريخ، ويتم التحكم بهما ومحو ملامحهما عمدًا. فالتنقّل فى فلسطين يعنى خوض شبكة من التصاريح، والحواجز، والتحويلات، المصممة لا لتقييد الحركة فقط، بل لاستنزاف الإرادة.
وقال الكاتبان إن نظام الحواجز والإغلاقات والاستثناءات حرم الأجيال الجديدة من أن ترى فلسطين كوحدة جغرافية، وهذا، فى حد ذاته، هو هدف الكيان الصهيونى.
ومن بين الآثار التاريخية الفلسطينية التى حرص الكاتبان على تخليدها فى الكتاب: أطلال قرية «كفر برعم» المدمرة عام 1953، وقبر الشاعر محمود درويش والذى كان صديقًا شخصيًا لـ«شحادة»، والخانات العثمانية، وأطلال «جبعون» القديمة، وقصر اليهود على نهر الأردن حيث تعمّد السيد المسيح.
كما تحدثا عن نصب تذكارى لسرب من ملاحى المنطاد العثمانيين، وهو النصب العام الوحيد الذى يخلّد النكبة أو مأساة تهجير 750,000 فلسطينى عام 1948، مع التشديد على أنه يتم تشويه التاريخ أو محوه وإعادة كتابته بقوة الاحتلال الإسرائيلى فى كل مكان.
ومن هذا المنظور، فإن «المنسى» ليس فقط كتابًا عن الفقد؛ بل هو أيضًا كتاب عن المقاومة – ليست السياسية فقط، بل الوجودية أيضًا، وكلا الكاتبين الآن فى السبعينيات من عمرهما، وهما يرسمان بأقلامهما رؤية لتراث فلسطينى يرفض أن يُمحى.
هذا التراث يمتد لآلاف السنين ويستمر رغم محاولات المحو المستمر؛ فحتى بعد الجرافات والقصف، تتفتح الأزهار، وتستعيد الأشجار الأرض، وتشق شقائق النعمان الحمراء طريقها من بين الصخور، ويظل الكاتبان مندهشين من التلال، ومن النسور التى تحلق فوقهما، ومن غيوم زهر اللوز كل ربيع.
وفى الختام، أكد الكتاب الجديد أن كل هذا الماضى المتراكم يحمل فى داخله وعدًا بمستقبل ثرى ومستمر بذات القدر، وقد أشادت به الصحف العالمية ومن بينها «آيريش تايمز» و «أوبزرفر» و «الجارديان» التى شبهته بـ «منارة من نور تتتوهج فى وجه الظلام الإسرائيلى».