في كتاب لمؤرخ هولندي: كيف يمكن للشباب التوفيق بين المعنى الأخلاقي لحياتهم المهنية وبين غابة عالم الرأسمالية؟
صدر حديثًا للمؤرخ الهولندى الشاب روتجر برجمان – الذى وصفته شبكة TED بأنه «أحد أبرز المفكرين الشباب فى أوروبا» – كتاب جديد حاول من خلاله التوفيق بين الطموح الأخلاقى للشباب والقيم والمبادئ التى يجب أن يتحلوا بها فى سوق العمل وبين عالم الرأسمالية الحالى والشركات التنافسية والوظائف المتباينة الذى يشبه الغابة.
واستهل «برجمان» الكتاب بالحديث عن حالة الاغتراب العميقة والمُتآكلة التى يعانى منها كثير من الشباب المهنيين الموهوبين، الذين يجدون أنفسهم يحققون مكاسب مالية ولكن فى وظائف منهكة ومُستنزِفة بل ومتناقضة أخلاقيًا أحيانًا، ومن هنا أتى عنوان الكتاب «الطموح الأخلاقى» الذى يشير إلى ضرورة إدراك أن المهارات الجادة – المالية والتنظيمية والتقنية والتحليلية – التى تؤهلك مثلا فى الولايات المتحدة لدخول كلية من كليات القمة والحصول على مستقبل آمن، يمكن تسخيرها لتحسين حياة البشر والكائنات الأخرى بشكل ملموس.
ولكى يحدث ذلك، نحتاج إلى سرد حيوى ومفصل لقصص حقيقية تُظهر كيف تحولت هذه الإمكانيات فى الماضى من مجرد احتمالات إلى واجبات ملحّة، فعلى سبيل المثال: من الذى آوى اليهود فى فرنسا وهولندا المحتلتين من قبل النازيين؟ ولماذا؟ من الذى فضح الانتهاكات الجسيمة للسلطة الرأسمالية فى أمريكا القرن العشرين؟ وكيف اكتسبت حملة إنهاء تجارة العبيد زخمًا قويًا فى القرن الثامن عشر خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا؟
القصص التى سردها «برجمان» نابضة بالحياة وملهمة بحق؛ فصفحات الكتاب عن المحامى الراديكالى والناشط الأمريكى من أصل لبنانى، رالف نادر، وانتصاراته المبهرة على جمود الشركات وأنانيتها تمثل تناقضًا صارخًا مع التخلى شبه التام عن القيم التى كان يُمثلها فى أمريكا اليوم. ومع ذلك، فقد قدم «برجمان» فى سرده لمسيرة «نادر» تحليلا مهما لطبيعة القيادة الراديكالية الفعالة، بما فى ذلك توزيع المسئوليات وترك مساحة كافية للناس لتحديد أجنداتهم الخاصة؛ فوظيفة القيادة هى إنتاج مزيد من القادة، لا مزيد من الأتباع، كما قال «نادر».
ولم يغفل «برجمان» عن ذكر النهاية المحبطة لمسيرة «نادر»، وهى ترشحه للرئاسة عام 2000، والذى ساهم عمليًا فى وصول جورج دبليو بوش إلى السلطة؛ فشدة حملاته، والمطالب التى فرضها على نفسه وعلى الآخرين، وثقته التامة فى قدراته على حل المشكلات، كلها أدت فى النهاية إلى فقدان الواقعية والتصامم عن النقد، وبرغم ادعائه الاستفزازى بأن إحداث الفرق يتطلب خلق ما يشبه «الطائفة»، إلا أن «برجمان» أكد أن المثالية المفرطة والمستمرة ليست فقط غير قابلة للاستمرار، بل قد تكون خطيرة.
كما عرض «برجمان» وجهة نظر متزنة حيال تعقيدات حركة «الإيثار الفعّال» (رغم ما لحق بها من تشويه بسبب شخصيات إشكالية مثل رجل الأعمال الأمريكى سام بانكمان – فرايد الذى سُجن بسبب تهم تتعلق بالاحتيال والتآمر). إذ أن التركيز المُفرط على الفعالية القابلة للقياس غذى فكرة أن أفضل طريقة لفعل الخير هى تحقيق أقصى قدر من المال بهدف التبرع به لاحقًا. لكن هذا أدى – بالنسبة للبعض – إلى تشتت الهدف لدرجة استبدال حل المشكلات العالمية الحقيقية بنقاشات لا تنتهى حول «ما يمكن فعله» لو كنت أغنى.
وأشار «برجمان» إلى أنه لا فضيلة أخلاقية فى الفشل، ولا مبرر لعدم الفعل لمجرد وجود نوايا طيبة، وطرح نقدًا صارمًا لأسطورة «الخاسر النبيل»، حيث يتم تقديس النقاء الأخلاقى على حساب النتائج الفعلية. «النجاح» – فى نظره – واجب أخلاقى، والمساءلة أمر أساسى، نقلًا عن صحيفة الجارديان البريطانية.
لكن هذه المساءلة تتطلب عادتين حاسمتين: أولا، بذل الجهد لفهم المشكلة من مصادرها المباشرة، أى من أولئك الذين يعانون منها فعلا. وثانيًا، الحذر من النزعات المثالية أو القصوى التى تجعل من المستحيل بناء استراتيجيات سياسية طويلة الأجل، أو تكوين تحالفات مرحلية مع من لا يشاركونك جميع قناعاتك.
وقال «برجمان» إن تنامى الوعى بمفهوم «التقاطعية» – أى تداخل العوامل المختلفة التى تعيق كرامة الإنسان وحرياته – يعتبر تطورًا مهمًا فى التفكير المعاصر لا سيما حول العدالة. إلا أنه حذر من أن هذا الوعى قد يتحول إلى حالة من التعصب الأخلاقى، ترفض التعاون مع أى شخص لا يعتنق كل بنود «الحزمة الأخلاقية» المفترضة، حيث يصبح من المستحيل العمل على قضية واحدة دون استكمال جميع القضايا الأخرى، ويُحرم أى حليف محتمل من الشرعية إلا إذا أقر بكل عناصر «العقيدة».
وللتوازن بين الفكرتين، عرض «برجمان» أمثلة على حركات ناجحة فكرت بجدية فى التنازلات التكتيكية الضرورية وقبول التأخير المؤقت من أجل تحقيق نتائج أكثر استدامة – بدءًا من حركة إلغاء العبودية، وصولًا إلى مقاطعة حافلات مونتجومرى عام 1955 (حيث أظهر أن احتجاج روزا باركس الشهير كان مُخططًا له بعناية لتحقيق أقصى تأثير وروزا باركس هى المؤثرة السمراء التى رفضت التمييز ضدها وترك مقعدها فى الحافلة فى الصفوف الأولى المخصصة لذوى البشرة البيضاء لأن القانون الأمريكى يمنعها كسمراء أفريقية من الجلوس فى مقاعدهم).
وخاطب الكتاب الجديد بالأساس الفئة الطموحة من الشباب الباحثين عن معنى أخلاقى لحياتهم المهنية، وتميز المؤلف بواقعيته فى الاعتراف بالحاجة إلى التخفف من وهم القداسة الذاتية، وإدراك أهمية العناية بالنفس لتجنب الاحتراق النفسى أو، الأسوأ، وهو الوقوع فى فخ أسطورتك الشخصية. كما دعا إلى التركيز على النتائج القابلة للقياس – حتى وإن لم تكن درامية أو شاملة كما كنت تأمل.
ولذلك، فإن هذا الكتاب يتجاوز كونه دليلًا للمساعدة الذاتية لأنه يقدم رؤية مفعمة بالأمل، تُصرّ على ضرورة أن نُبقى أنفسنا حساسين – بل ونعيد تحفيز حساسيتنا – تجاه ما يقوّض كرامة الإنسان، بل وكرامة البيئة الحية كلها، وهى نقطة محورية فى أطروحة «برجمان»، وكما أشار فى خاتمة الكتاب، فإن الاعتقاد بأن الأفراد لا يمكنهم إحداث فرق هو، بشكل مفارق، قناعة فردانية عميقة، ترفض رؤية تداخل الأفعال البشرية.