جلال برجس: رواية “معزوفة اليوم السابع” تستند إلى ثلاث مراحل زمنية وتعكس بعمق التجربة الإنسانية.

جلال برجس: رواية “معزوفة اليوم السابع” تستند إلى ثلاث مراحل زمنية وتعكس بعمق التجربة الإنسانية.

يكشف الكاتب الكبير جلال برجس عن الأبعاد العميقة لروايته «معزوفة اليوم السابع»، التى ولدت من عزلة كتابية امتدت أربع سنوات، انعكست بعمق على أجواء العمل وشخصياته، موضحا خلال حواره مع «الشروق» أن الرواية ليست مجرد حكاية عابرة، بل هى استبطان عميق للهم الإنسانى، تتنقل بين الماضى والحاضر والمستقبل، وتستند إلى فكرة رمزية مؤثرة دون تعقيد، لتتيح للقارئ تأويلات متنوعة.

عندما بدأت بكتابة «معزوفة اليوم السابع»، ذكرت أنك كنت تعيش عزلة دامت أربع سنوات. كيف انعكست هذه التجربة الشخصية على أجواء الرواية وأحداثها؟

ــ هذه الرواية ليست وليدة اللحظة إنما هى نتاج هاجس عمره من عمر الوعى عندى، لكننى كلما قررت كتابتها أتراجع سعيًا إلى قراءات جديدة تسند المحمول المعرفى الذى يرافق الفكرة، وحين وجدت أن الوقت مناسب لخوض غماراها كان لزامًا علىَّ أن ألجأ إلى عزلة الكتابة كما فعلت مع معظم رواياتى. العزلة تعنى عيش لحظة الشخصية بكل تفاصيلها، وتعنى أن تتحرك الشخصيات حول الكاتب حينما ينفصل عن واقعه ويعبر نحو واقع الرواية المتخيل. لقد كانت تجربة متعبة وجميلة فى الوقت نفسه، متعبة لأن موضوع الرواية يذهب عميقًا نحو الهم الإنسانى، وجميلة حين أجد أن الكتابة يمكن أن تبتكر شمسًا ضد العتمة.

هل ساهمت الظروف العامة فى تشكيل عالم الرواية وأفكارها الرئيسية؟

ــ بطبيعة الحال هذه الرواية قادمة من عمق الظرف العام الإنسانى، ظرف متعلق بالبشرية كلها، وهذا هو المنحى الصعب فى الرواية، فليس من السهل استلهام العام وتذويبه فى مساحة روائية تتوفر على عناصر مقنعة للقارئ، وفى الآن نفسه تفسح مجالًا للقارئ بأن يرى ما رآه فى سياق حياته، بحيث تجد قارئًا يصرخ فى منطقة ما من مناطق الرواية قائلًا: هذا ما كنت أفكر به.

يبدو وكأن «باختو» بطل الرواية يحمل رسالة قوية تتعلق بالحياة والموت. كيف استقر هذا البطل فى ذهنك؟ وهل يمثل جزءًا من أفكارك أو مخاوفك الشخصية؟

 

ــ يحمل باختو رسالة تنتصر للحياة، إنه يسعى لانتزاع لؤلؤة الأمل من بطن الألم. إنه شخصية تعيش فى أطراف التهميش الإنسانى لكنه فى سياق الرواية يظهر بدور مختلف تماما بحيث تصبح هامشيته متن رئيسى. أما كيف عرفت هذه الشخصية سأقول لك ما فضلت أن يرفق بغلاف الرواية: فى إحدى الصباحات الربيعية من عام 2012م، وأنا أنتظر حافلة تقلنى إلى عملى، شاهدتُ شابًّا غجريًّا، يكنسُ الشارع على أنغام موسيقى تصدر عن هاتف نقَّال معلَّق فى خاصرته، يقفز بحركات رشيقة، والمكنسة بين يديه طيِّعة كأنها امرأة يراقصها، وفى لحظة تقمصٍ متقنةٍ تتحول إلى بندقية يصوِّبها نحو أعداء مفترضين. اعتدت رؤية الغجرى، ونشأت بيننا صداقة صامتة لا يتخللها سوى تحيات خاطفة.
فى إحدى صباحات الشتاء الباردة، لم أجد ذلك الشاب، لكنى سمعت أنينه وهو يتوارى وراء جدارٍ هربًا من البرد بثياب خفيفة مبتلَّة. قبل أن أغادر خلعتُ معطفى ودثرته به، دون أن أدرى أن هاتفى النقَّال وحاجياتى صارت بحوزته. عند المساء وجدته بانتظارى يضع معطفى على يده ليعيده لى: لست مجنونًا، وليس بالضرورة أن يكون الغجرى لصًّا كما يشاع. فى تلك اللحظة وأنا أتأمل خيام الغجر وهى على طرف المدينة تقاوم الأمطار الغزيرة، ولدتْ فكرة هذه الرواية التى تحكى سيرة المصير الإنسانى، وكيف يمكن للآدمى أن يكون وحشًا، وفى الآن نفسه حملًا وديعًا فى مدينة مكونة من سبعة أحياء، جنوبها مخيم كبير لغجٍر مطرودين منها، وغربها جبل على قمته قبر جدها الأول، مدينة يصاب سكانها بوباء غريب؛ فتصبح على حافة الهاوية، حينها يأتى الخلاص من جهة غير متوقعة.

ما الذى يرمز إليه «باختو» فى سياق الرواية؟

ــ إنه معادل موضوعى للهامش الذى لا يمكن أن يستمر المتن من دونه. سعى باختو إلى أن يتجاوز كل محاولات تهميشه حينما طرد من المركز نحو الطرف. طُرد من (مدينة الجد الأول) فنشأ مخيم الغجر، لكنه قفز عن كل ما يعيق زاويته نحو الحياة، وابتكر طريقا استثنائيا للمضى فيه. دعونا نتأمل هذه الصورة: شاب غجرى يعمل فى تنظيف الشوارع من القمامة، المهنة الوحيدة المسموح للغجر/ المهمشين العمل فيها. يكنس الشوارع وهو فى غاية أناقته، يكنسها وهو يرقص على أنغام الموسيقى، دون أن يدرى أنه سيصير الأبرز بين سلالة الجد الأول لهذه المدينة.

تتناول الرواية مصير البشرية عبر تقاطعات بين الماضى والحاضر والمستقبل. لماذا اخترت هذه التيمات تحديدًا؟ وما الرسالة التى كنت ترغب فى إيصالها عبر هذا التقاطع؟

ــ لهذه الرواية ثلاث طبقات زمنية واحدة عتيقة، وأخرى فى الوقت الحاضر، والثالثة طبقة زمنية لم تأت بعد. وما ذهابى إلى هذه الطبقات إلا لمقاربة المكون الإنسانى بكل توافقاته وتناقضاته وصولًا إلى الحقيقة، حقيقة الإنسان ووجوده التى بطبيعة الحال ستبقى قيد البحث. الرواية فى هذه المرحلة تصطحب القارئ ليس فقط إلى لذة حكايتها، إنما إلى منطقة ذهنية لا بد تفضى إلى تصور ما، وتأويل ما ربما يختلف عما ذهب إليه الكاتب، لكنه لن ينفصل عن الأصل، أصل الفكرة.

تقوم الرواية، فيما تقوم عليه من عناصر، على وباء غريب يجعل المصابين به يقعون فى غرام الموت. فكرة جريئة ومقلقة فى الوقت ذاته. ما الذى ألهمك هذه الفكرة؟ وهل ترى أن العالم اليوم على حافة «وباء» إنسانى مشابه؟

ــ يبدو لى أن العالم على مقربة من وباء غريب الأطوار، مختلف تمامًا عن كل ما حدث سابقا، وباء يأتى من مناطقنا الجوانية المعتمة، والباردة، نشأ هناك، وتطور مع مرور الزمن، وقد باتت شروط تفشيه شبه مكتملة، وهذا هو الدافع الذى يقبع وراء هذه الفكرة، التى تنبع مما يصيبنى من خوف على إنسانيتنا. الأوبئة بشقيها المادية وغير المادية تنشأ نتاج التراكمات، والعالم يصاب فى هذه المرحلة بأعلى درجات التراكم، وهناك من يسميه احتقانا. السؤال الذى ما يزال يقلقني: إلى ماذا سيؤدى هذا التراكم.
زجاج النافذة لا يعتم فجأة، الذى يحدث أن ذرات الغبار تحط عليه ذرة ذرة، ومع مرور الأيام، وفى غياب اليد التى يجب أن تحافظ على نظافته، ستستحيل الرؤية خلاله، حينها ربما يهشمه أحدما قبل أن يبذل جهدًا لاستعادة وضوحه الطبيعي، فهو سيرتبك أمام كل ذلك الغبش.

الرواية بنيت على ثلاث مراحل زمنية: الماضى البعيد، الحاضر الملتبس، والمستقبل الغامض. كيف تعاملت مع هذه الأزمنة فى السرد؟ وهل كان لديك ترتيب معين فى معالجتها؟

ــ بالطبع كان هناك سياق متسلسل، فقد نظرت الرواية إلى الأبعاد الثلاثة للشخصيات، وللأمكنة، ومن ثم للزمن، فمقاربة الزمن عبر مراحل ثلاث، تقابلها أبعادها، بحيث يتسنى للقارئ التعاطى مع الفكرة، ليس من جهة الحكاية فقط ومتعتها، إنما أيضًا من جهة محمولاتها المعرفية، وصوتها.

وصفت الرواية بأنها تعتمد على الرمزية بأسلوب غير معقد، مما يتيح للقارئ التأويل بحرية. ما الذى دفعك لتقديم النص بهذا الشكل؟ وهل تخشى أن تتباين تأويلات القارئ بعيدًا عن رؤيتك الأصلية؟

ــ انتهجتُ هذا الوعى الرمزى فى الرواية لأحقق مساحة شاسعة من التأويل مع أننى أعلم كيف يمكن أن تتباين تأويلات القراء، وهذا طبيعى جدا، إذ إننى أسعى إلى دمقرطة نص الرواية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فأنا والقارئ نعيش اللحظة الزمنية ذاتها، وبالتالى حين تحدث مقاربة الكاتب مع مقاربة القارئ، فهذا يؤدى إلى مزيد من الأسئلة الحقيقية. وما كان لى أن أختار الترميز إلا لأبتعد عن المباشرة التى تفسد العمل، ولا تحترم ذائقة القارئ وقدراته.

هل ترى أن الرواية قدمت بارقة أمل أو دعوة لإعادة التفكير فى أولويات البشرية؟

 

ــ الرواية برمتها مبنية على الأمل، وإلا لما كُتبت فى الأصل. إن الذهاب إلى الأزمة لا يعنى إلا خلخلتها، وبالتالى تلاشيها، طبعا بعيدًا عن تلك المباشرة التى لا يقبلها الفن الروائى. القراءة باعتبارها فعلًا تنويريًا لابد أن تأخذ القارئ إلى أولويات البشرية، وبالتالى التفكير بها، وإعادة انتاجها بالشكل الذى يخرج على سياق صدام الحضارات. لقد أتيت إلى قرائى برواية ترفع أمام أعينهم مشعل الأمل.