أسامة غريب ينشر: النجاح خارج الوطن والكرامة

منذ أن قرر السادات الاتجاه بكليته نحو أمريكا وبدأ بانتهاج ما يُعرف بسياسة الانفتاح الاقتصادى، وبعد أن قدّم للأمريكان عربون محبة فأخرج أستاذ الصحافة الكبير مصطفى أمين من السجن، وبعد أن عاد من جديد للكتابة مجموعة ممن كانوا قد هجروا مصر على زمن عبد الناصر، وأفسحت لهم صحف السادات مساحات كبيرة، بدأت موجة عارمة من التبشير بأهمية المشروع الخاص وبقبح وخطأ تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى.
وقد شاعت فى ذلك الوقت قصص امتلأت بها الصحف عن شباب كانوا فقراء معدمين ثم هاجروا إلى أوربا وأمريكا وبدأوا من الصفر. ولأنهم أصبحوا فى بلاد الفرص والاحتمالات المفتوحة، فقد حققوا ثروات طائلة وصار كل منهم مليونيرا بفضل الجد والاجتهاد.
كانت هذه القصص تملأ الصحف المصرية لدرجة الاجتياح، وأخذ كتّاب المرحلة على عاتقهم مهمة نشر “الحواديت” عن قصص النجاح بالخارج لشباب مصرى لم يكن يمتلك سوى أحلامه، ثم أصبح مالكًا للقصور والضياع واليخوت والطائرات. وتكفّل مصطفى أمين فى عموده اليومى بصحيفة الأخبار برواية “حدوتة” من هذا النوع كل يوم، الأمر الذى جعل الشباب من طلاب المدارس والجامعات وغيرهم يحلمون بفرصة بسيطة واحدة لعبور البحر، وبعدها كل شىء سيصير فى المتناول.
ولم لا؟ ألم يفعلها أوناسيس العامل اليونانى الذى هاجر على ظهر مركب بضائع ثم صار بعد بضع سنين واحدًا من أغنى أثرياء العالم؟ ولماذا نذهب بعيدًا ولدينا قصة “النمر الأسود” التى كتبها الأستاذ محمود أبو الفتح عن الشاب الأسمر المصرى ذى التعليم المتواضع الذى ذهب إلى ألمانيا فحقق نجاحًا لم يعرفه الشباب الألمانى، وصار رجل أعمال معروفًا، كما استولى على قلب الشقراء الألمانية التى أحبته فتزوجها وفاز بالحُسنيين!
كان أفق “الهجايص” فى تلك الفترة مفتوحًا على اتساعه، وبعد ذلك وبمرور الوقت انحسرت هذه الموجة وأخذ الحديث عن المهاجرين منحًى آخر أكثر جدية. ومع ذلك لم يخلُ تمامًا من العبث، فنحن ما زلنا نسمع أن المصرى الذى يهاجر للخارج يحقق نجاحات كبرى فى بلاد المهجر، وتقوم الصحف من وقت لآخر بإبراز قصص هذا النجاح، فتشير إلى رجل الأعمال فلان الذى سافر على مركب إلى أوروبا وغسل الصحون ونام على الأرصفة، وفى النهاية امتلك شركة. أو الآخر الذى تخرج فى طب عين شمس ويقوم الآن بعمل الجراحات الدقيقة فى أكبر مستشفيات أمريكا، أو الذى أصبح لديه سوبر ماركت بعد الضيق والفاقة.. حكايات هؤلاء يشار إليها دائمًا باعتبارها قصص نجاح يُحتذى بها.
لا أدرى لماذا لم تقنعنى أو تؤثر فيّ قصص هؤلاء، ولا استطعتُ أبدًا أن أنظر إليها بحسبانها قصص نجاح رائعة، أو أنظر لأصحابها باعتبارهم أساتذة يمتلكون حق تعليم الأجيال الجديدة من المهاجرين أصول النجاح ومبادئه.
ما هو النجاح أولًا؟ هل هو تحقيق ثروة كبيرة؟ وهل يُعتبر ناجحًا بحق من يفر من وطن يخنق الأحلام، وعندما تستتب أموره بالخارج يقود مظاهرة لاستقبال حسنى مبارك على باب البيت الأبيض أو قصر الإليزيه؟ أى نجاح هذا؟ ولماذا هاجر صاحبنا من الأساس إذا كانت أحلامه الكبرى لا تتجاوز أعمال “الشماشرجى” وهى متوفرة فى الوطن بعائد مجزٍ ولا تحتاج للغربة والشحططة!
هناك جوانب أخرى لمسألة النجاح لا يلتفت إليها الكثيرون.. قد يكون هناك من الشباب من هاجر وقنع بشغلانة بسيطة تغطى احتياجاته الحياتية، وقصة نجاحه لا تتمثل فى المال الذى يجنيه، وإنما فى العيش بكرامة وسط أناس يحبهم ويحبونه، دون أن يُضطر إلى منافقة مدير أو مداهنة كبير، أو مصارعة زميل مسعور يكتب تقارير فى زملائه الأكثر كفاءة.. أليس هذا نجاحًا؟ أم أن المال فقط هو المعيار؟
إن الذى سافر من أجل المال بالأساس سوف يعتبر نفسه فاشلًا إذا لم يحقق الثروة التى هاجر لأجلها، أما الذى سافر من أجل الكرامة فإن نجاحه أسهل بكثير.. لكن للأسف فإن أعداد هؤلاء هى دائمًا الأقل!
هناك شىء آخر مهم، هو أن سنوات التكوين التى يقضيها الشخص فى بلده قبل السفر لا بد وأن تكون قد طبعت داخله أشياء تظل ملازمة له فى الوطن الجديد. والشخص الذى تعوّد أن تصل إليه رخصة قيادة السيارة حتى باب البيت دون أن يجيد تشغيل الموتور، سيعجز عن النجاح فى امتحان السواقة بالأساليب الطبيعية التى هى المذاكرة والتدريب.. هذا الشخص قد يعتبر المهجر مكانًا سخيفًا لا يعرف الناس فيه “تفتيح المخ”، ولهذا فحياتهم صعبة ومكلكعة، وقد يعود إلى الوطن من جديد ليتدثر بالفساد وسط الأهل والأصحاب.
النجاح فى الخارج يتوقف على: ماذا يريد المهاجر؟ هل يريد الحرية والكرامة؟ أم يريد المال؟ أم يحلم ببلاد بها بنات شُقر، ويا حبذا لو كانت بلادًا لا يعمل الناس فيها بجدية حتى لا ينكشف؟!
لكن بعيدًا عن هذا كله، لا يجب أن نندهش إذا علمنا أن هناك من يرى النجاح فى مجرد الحصول على الفيزا المؤهلة لأن يركب الشاب الطائرة بلا عودة!