مقال في “فورين أفيرز”: ترامب يضعف روح الابتكار الأمريكية والصين تستفيد من ذلك

– سياسات ترامب ستؤدي إلى جيل ضائع من العلماء في الولايات المتحدة
– دعم الابتكار أصبح “ضرورة وجودية” في ظل صعود الصين إن أرادات أن تبقي أمريكا هيمنتها على العالم
نقلت مجلة “فورين أفايرز ” – وهي مجلة أمريكية متخصصة في الشئون الدولية والسياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية – مقالًا لأستاذ الابتكار والسياسات العامة في كلية السياسة العالمية والاستراتيجية في جامعة كاليفورنيا، دايفيد جي. فيكتور، هاجم فيه بشكل مباشر سياسات الرئيس الأمريكي الحالي “ترامب” مدعيًا أنها السبب الرئيسي في تراجع هيمنة الولايات المتحدة على الابتكار الذي لطالما تفوقت فيه، بل وأصبحت القوة الأولى في العالم بسببه.
في البداية، أشار الكاتب إلى حقيقة أننا رأينا على الساحة على مدار الأشهر القليلة الماضية مراحل تبلور خطة معقدة تضمن تفوق الصين في المنافسة الاقتصادية العالمية، إلا أن المثير للدهشة هو أن واضعي هذه الخطة ليسوا قادة الصين، بل هم الساسة الأمريكيون أنفسهم؛ فالخفض الذي تجريه إدارة الرئيس الأمريكي الحالي “ترامب” على ميزانيات الوكالات الفيدرالية يضعف قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرك الأساسي لنموها الاقتصادي.
كما أن السياسات العدائية تجاه الهجرة تصعّب على الشركات والجامعات والصناعات الأميركية جذب أفضل العقول والأفكار من أنحاء العالم والاستفادة منها لدفع الازدهار الأميركي، أما التهديدات المستحدثة الخاصة بـ “ترامب” بفرض الرسوم الجمركية وفرض قيود على سلاسل التوريدات الأجنبية، فقد أدخلت الرعب في نفوس المستثمرين، الذين باتوا يحتفظون برؤوس أموالهم ويبحثون عن فرص بديلة بعيدًا عن هذه الفوضى، وذلك بالتزامن مع ازدياد تنافسية الصين في المجالات ذاتها التي تقوم الولايات المتحدة بتقويضها.
وهذا يسلط الضوء على ضرورة ملحة؛ ألا وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى وقفة حقيقية مع النفس وإعادة اكتشاف قيمة الابتكار لديها؛ فكل مجال من مجالات النمو الاقتصادي المستقبلي التي يمكن أن تتصدرها الولايات المتحدة – مثل البرمجيات، والذكاء الاصطناعي، والتنقيب عن النفط والغاز، والروبوتات، وصناعة السيارات الكهربائية – يعتمد قلبًا وقالبًا على الابتكار الذي يستحيل تحقيقه دون دعم حكومي اتحادي موثوق وطويل الأمد.
ولطالما اعتبر الحزبان السياسيان الرئيسيان في أمريكا – الديموقراطي والجمهوري – الاستثمار العام في التعليم العلمي والتدريب والابتكار حجر الأساس الحقيقي لازدهار الولايات المتحدة المستقبلي، أما اليوم فالوضع فد تغير؛ فلا يبدو أن أي من الحزبين يدرك هذه الحقيقة أو يدافع عنها بقوة، وبدلاً من ذلك، أصبحا يتبنيان سياسات مضللة، تهدف إلى تقليل الاعتماد على الصين، بينما يؤدي ذلك فعليًا إلى دفع بقية العالم للاعتماد بشكل أكبر على الصناعات الصينية.
وعلى الصعيد الآخر، فإن عزل الاقتصاد الصيني عن الغرب سيبوء حتمًا بالفشل؛ فالولايات المتحدة لم تعد تملك رفاهية التحكم “الأحادي” في اقتصاد عالمي مترابط؛ فلقد أنفقت الولايات المتحدة عقودًا طويلة وترليونات الدولارات لبناء أفضل منظومة ابتكار في العالم، والتي أصبحت المصدر الرئيسي لقوتها الاقتصادية والعسكرية. وتفكيك هذه المنظومة في اللحظة التي تسعى فيها الصين إلى بناء منظومة منافسة سيكون بمثابة انتحار.
—
وعندما تكون الاقتصادات في بداياتها، فإن لديها خيارات متعددة للنمو؛ كاستغلال الأعداد الكبيرة من العمالة منخفضة الأجر أو الموارد الطبيعية، ولكن مع نضوج الاقتصاد، لا يبقى أمامه إلا طريق واحد للنمو المستدام؛ ألا وهو الابتكار، فمع ارتفاع تكلفة العمالة والموارد، يصبح الابتكار السبيل لتحقيق المزيد بأقل الموارد، ومنذ الحرب العالمية الثانية، شكل الابتكار ربع نمو الاقتصاد الأميركي على الأقل، حيث سمح بالاستخدام الأكثر كفاءة لرأس المال والعمالة.
وفي الحقيقة، فإن الاقتصاد الأمريكي يقدم مثالًا حيًا على أرض الواقع على كيفية تغيّر آليات النمو عبر الزمن؛ ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان التوسع في الأراضي وزيادة عدد العمال (بما فيهم المهاجرين والعبيد) هو محرك النمو، ولكن مع نهاية التوسع السهل في الأراضي والعمالة الرخيصة، بدأ الابتكار يملأ هذا الفراغ.
ومع تحوّل الاقتصاد الأمريكي نحو التصنيع، ساعدت ابتكارات عدة مثل شبكات الكهرباء – التي تطورت على مدى عقود بفضل الدعم الحكومي- في توسيع الإنتاج الصناعي. ولاحقًا، ومع انتقال الاقتصاد نحو الخدمات، التي تشكل حاليًا 80% من ناتجه، حافظت الابتكارات الكبرى في مجال الحوسبة على قدرة الولايات المتحدة التنافسية.
ووجب الإشارة هنا إلى أن منظومة الابتكار الناجحة تحتاج عادة إلى ثلاثة عناصر رئيسية: أولًا، توفير خط إنتاج دائم للأفكار الجديدة، وقد تصدّرت الولايات المتحدة الابتكار لعقود بسبب دعمها الهائل للبحث العلمي منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تملك التمويل الفيدرالي الذي يُدار من خلال الجامعات والمختبرات الوطنية والمعاهد، وينتج عنه أفكار تتحول إلى شركات ومؤسسات تدفع عجلة النمو الاقتصادي.
ورغم دخول القطاع الخاص كمكمل في بعض الصناعات كالتكنولوجيا الحيوية والحوسبة، إلا أن الابتكارات الأكثر تأثيرًا خلال الثمانين عامًا الماضية اعتمدت على التمويل الحكومي، لأنه الجهة الأكثر صبرًا واستعدادًا لتحمل المخاطر من أجل المصلحة العامة.
وقد نجح هذا النظام لأنه جمع بين الموارد الحكومية الهائلة والرؤية المستقرة نسبيًا، كما أثبتت الإدارة كفاءتها المعقولة في تخصيص تلك الموارد، وحتى مع اختلاف الحزبين الرئيسيين في حجم ودور الإدارة، فقد اتفقا على أهمية دعم الابتكار؛ فعندما حاولت إدارة الرئيس الأمريكي الراحل “ريجان” على سبيل المثال خفض الإنفاق الحكومي، لم يتأثر التمويل الإجمالي للبحث والتطوير بشكل كبير، وحتى عندما اقترح “ترامب” خلال ولايته الأولى تخصيص ميزانيات شحيحة كانت ستقضي على تمويل الابتكار، تدخل الكونجرس الأمريكي وأعاد تمويل هذه البرامج، مما حافظ على النظام الابتكاري.
إلا أن هذه الاستمرارية تبدو أقل احتمالًا الآن في ظل عودة “ترامب” للسلطة؛ فقد اختار الجمهوريون التماهي مع تقليص الحكومة وخفض الميزانيات، بما في ذلك تلك المخصصة لدعم الابتكار، وعلى الجانب الآخر ، بات الديمقراطيون، الذين لم يلملموا بعد جراحهم من جرّاء خسارة الانتخابات، يركزون على أولويات تمويلية أخرى غير العلم.
وكان نتيجة ذلك أنه خلال الأشهر الماضية فقط، انخفض تمويل الابتكار الفيدرالي بشكل حاد دون إشراف يُذكر من الكونجرس، فقد ألغت الإدارة الأمريكية – تحت قيادة زعيمها المعاد انتخابه “ترامب” – نحو ألف منحة من المعاهد الوطنية للصحة، وهي أكبر ممول للبحوث الطبية الحيوية، واضطرت بعض المختبرات البحثية إلى إعدام الحيوانات المستخدمة في التجارب العلمية بسبب توقف التمويل، بينما استُهدفت بعض الجامعات لأسباب لا علاقة لها بالبحث العلمي.
وقد طالت تلك الفوضى العنصر الثاني في منظومة الابتكار؛ ألا وهو العنصر البشري؛ فالعلم في حقيقته قائم على الأمل، ويتطلب صبرًا طويلًا. والعالِم النموذجي، بعد حصوله على درجة البكالوريوس، يقضي 4-6 سنوات في دراسة الدكتوراة، ثم يتبعها بضع سنوات من العمل منخفض الأجر كباحث ما بعد الدكتوراة. ومع أن الحوافز المالية المباشرة قليلة، إلا أن الكثير من العقول اللامعة حول العالم ينجذبون إلى المسار العلمي بسبب توفر المنح والدعم المؤسسي لتغطية تكاليف التعليم والتدريب.
ولكن عندما تجف تلك المنح، ينضب معها تدفق المواهب، وقد شاهدنا كيف اضطرت مختبرات جامعية وحكومية إلى تسريح موظفينها منذ شهر فبراير الماضي بسبب حالة “عدم اليقين” بشأن التمويل، وتحمل العلماء الشباب العبء الأكبر من هذه الأزمة، مما يهدد بإنتاج “جيل ضائع” من العلماء في الولايات المتحدة.
ويُفاقم هذه الأزمة العداء الحكومي تجاه الأجانب، وخصوصًا الصينيين، فالشاهد أن نجاح منظومة الابتكار الأميركية تأتى من اعتماد هذه المنظومة بدرجة كبيرة على المواهب الأجنبية؛ فالمدارس والجامعات الأمريكية لا تُخرج عددًا كافيًا من العلماء والمهندسين لتلبية الطلب المحلي، مما يجعل جذب المواهب من الخارج ضرورة. ففي جامعة كاليفورنيا مثلًا 5% من طلاب البكالوريوس، و25% من طلاب الماجستير في الهندسة، و45% من طلاب الدكتوراه في الهندسة ليسوا مواطنين أمريكيين. وعلى مستوى الولايات المتحدة بصورة أشمل، فإن نحو نصف طلاب الدراسات العليا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات هم من خارج الولايات المتحدة، وفي الهندسة تحديدًا، يبلغ عدد الطلاب الأجانب ضعف عدد المواطنين الأمريكيين.
وقد كانت الصين، تاريخيًا، المصدر الأهم للمواهب العلمية في الولايات المتحدة، إذ بلغ عدد الطلاب الصينيين في الجامعات الأميركية في سنوات العقد الماضي نحو 400 ألف طالب سنويًا، معظمهم في مجالات الرياضيات، ورغم أن جائحة كورونا خفضت الأعداد بشكل ملحوظ، إلا أن نحو 300 ألف طالب صيني ما زالوا يدرسون في الولايات المتحدة حاليًا. ولكن المؤشرات الحالية توحي بتراجع هذا التدفق، إذ انخفض التعاون الأكاديمي بين العلماء الأميركيين والصينيين منذ أن بلغ ذروته عام 2020.
وهنا نقول، صحيح أن الولايات المتحدة بحاجة لتقليل اعتمادها على المواهب الصينية لتقليل المخاطر الاستراتيجية، إلا أن تحقيق هذا الهدف لن يتأتى إلا على المدى الطويل، أما في زمننا الحالي، فإن مضايقة المواطنين الصينيين، بمن فيهم العلماء، على الحدود الأميركية وفي الجامعات، يدفع الأسر الصينية للتردد في إرسال أبنائها للدراسة في الولايات المتحدة، وهو ما يُعد كارثة للجامعات الأمريكية ومكسبًا لمنافسيها من الجامعات الناطقة بالإنجليزية في دول مثل أستراليا وكندا وهولندا والمملكة المتحدة، التي بدأت بالفعل في تقديم حوافز جديدة لجذب العلماء الأجانب في الوقت الذي تكثف فيه إدارة “ترامب” جهودها للحد من قبول الطلاب الأجانب، ولا عزاء للشأن العام.
أما الضلع الثالث لمنظومة الابتكار الناجحة هو وجود سوق مرنة ورؤوس أموال قابلة للمخاطرة، ولأن الابتكار يسعى إلى تعزيز الإنتاج باستخدام مدخلات أقل، فإنه يستفيد دومًا من وفورات الحجم؛ حيث توفر الأسواق الكبيرة فرصًا تراكمية أكبر للابتكار الذي يُحسّن المنتجات من خلال التجربة، فعلى سبيل المثال، كانت العولمة في الأسواق محفزًا للتقدم فيما يخص تكنولوجيا الطاقة النظيفة، وقد ساعدت الابتكارات المبكرة في الطاقة الشمسية، التي دعمتها الولايات المتحدة واليابان في سبعينيات القرن الماضي لتقليل اعتمادهما على النفط المستورد، في جعل الطاقة الشمسية قابلة للتطبيق في بعض التطبيقات المتخصصة.
وفي العقد الأول من هذا القرن، خلق الدعم الحكومي الألماني (الذي كان حريصًا على تقليل الاعتماد على الطاقة النووية والمستوردة وبناء صناعات محلية مع تقليل الانبعاثات أيضًا) سوقًا كبيرًا آخر للطاقة الشمسية، ومع نمو السوقين الألماني والعالمي، قادت الابتكارات إلى إنتاج ألواح شمسية أفضل أداءً. ثم انتقلت حدود صناعة الطاقة الشمسية إلى الصين، حيث أدت الابتكارات الضخمة في التصنيع إلى خفض التكاليف بشكل أكبر وساعدت في جعل الطاقة الشمسية أكثر قدرة على المنافسة مع الفحم والغاز. وعلى مدى عقود عدة، سمح هذا النهج العالمي بتحول الألواح الشمسية، التي كانت تكنولوجيا هامشية ذات يوم، إلى أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء في العديد من الأماكن.
ولكن كما أظهرت صناعة الطاقة الشمسية فوائد الأسواق المعولمة، فهي تُظهر أيضًا الأضرار التي قد تلحقها القومية بالابتكار التكنولوجي؛ فقد أدت رسوم “ترامب” الجمركية المتصاعدة والاختناقات في سلاسل التوريدات ، التي نشأت جزئيًا بسبب سياسات تجارية فوضوية، إلى ارتفاع تكاليف الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن السياسات المحلية قد تجلب في النهاية المزيد من إنتاج الطاقة الشمسية إلى الولايات المتحدة، فإن حوالي 80 بالمائة من المعدات المستخدمة في مشاريع الطاقة الشمسية الأمريكية كانت لا تزال مستوردة حتى عام 2023 – ومعظمها من الصين.
ونتيجة لذلك، أصبح المستثمرون الآن يخشون الإلغاء التعسفي لمشروعاتهم، ففي أبريل الماضي، على سبيل المثال، أوقفت إدارة “ترامب” مشروع طاقة الرياح البحرية لشركة Equinor في نيويورك، والذي تمت الموافقة عليه مسبقًا، وذلك بعد أن مارست ضغوطًا على ولاية نيويورك للموافقة على مشروع غير ذي صلة لخط أنابيب غاز طبيعي؛ وبحلول ذلك الوقت، كان الضرر قد لحق بمصداقية العقود الأمريكية بالفعل.
إن الطاقة النظيفة تعتمد بشكل كلي على الاستثمار، وتُفسّر هذه المخاطر بالنسبة للمستثمرين السبب في أن نصف المشاريع المخطط لها لبناء مصانع تكنولوجيا الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة يتم تأجيلها الآن أو يتم تجميدها تمامًا.
وقد تكون المعارضة السياسية والقانونية المتزايدة قادرة على إجبار الإدارة الأمريكية الحالية على التراجع عن العديد من السياسات السامة، ولكن تبقى الرسالة الموجهة إلى بقية العالم واضحة؛ ألا وهي أن الحكومة الأمريكية أصبحت أقل موثوقية بكثير؛ لاسيما فيما يخص احتضانها للابتكار.
لقد ألهمت محاولات الحكومات الأوروبية للتعامل مع هذا الواقع إصلاحات سياسية واقتصادية عديدة، بما في ذلك زيادة الإنفاق الدفاعي، وسياسات الطاقة الخضراء الأكثر تنسيقًا وأقل تكلفة، واتفاقيات تجارية تتيح الوصول إلى أسواق جديدة، وكلها ستجعل القارة الأوروبية أكثر قدرة على المنافسة.
وبينما تعمل الولايات المتحدة على قدم وساق من أجل هدم نظام الابتكار الخاص بها، تواصل الصين التقدم نحو المستقبل؛ فمنذ التسعينيات من القرن الماضي، تبنت بكين استراتيجية ابتكار تهدف إلى تعزيز اقتصادها، ونجحت في ذلك حيث زاد إنفاقها الإجمالي على البحث والتطوير بمقدار 20 ضعفًا منذ عام 2000، ويمر معظم هذا الاستثمار عبر مؤسسات مرتبطة بالدولة، لكن دور القطاع الخاص قد زاد أيضًا بشكل ملحوظ، وعند جمع جميع مصادر التمويل العامة والخاصة معًا لا تزال الولايات المتحدة أكبر ممول للبحث والتطوير في العالم، ولكن الصين على وشك أن تتفوق عليها.
وقد تجاوز الإنفاق الإجمالي للصين على البحث والتطوير نظيره في الولايات المتحدة لأول مرة عام 2025، وذلك بعد أن لم تكن برامج الجامعات الصينية تحتل المراتب الأولى حتى في أي مجال رئيسي من مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أما اليوم، ووفقاً لتصنيفات U.S. News and World Report، فإن ثمانية من أفضل عشرة برامج هندسية في العالم توجد في الصين، وأصبح طلاب الدراسات العليا الصينيين الذين درسوا في الولايات المتحدة يعودون لبلادهم بعد أن كان الحال عكس ذلك حيث كانوا يفضلون البقاء في الولايات المتحدة.
إن عودة العلماء الصينيين إلى بلادهم ساهم بشكل مباشر في تحويل آليات الابتكار إلى مقومات إنتاج، ولطالما انتقد المحللون الصين لتركيزها على تحسينات العمليات ، مثل إيجاد طرق أكثر كفاءة لاستخدام الروبوتات في خطوط الإنتاج مثلًا، بدلاً من اختراع مفاهيم جديدة، بيد أن التحسينات تلك ساعدت في وصول مصانع السيارات والبطاريات الصينية إلى القمة في تلك الصناعات.
وتعد الشركات الصينية المصنعة لمحطات الطاقة النووية رائدة عالميًا في تحسينات العمليات التي تجعل من الممكن بناء مفاعلات نووية بتكلفة منخفضة، وعلى الرغم من أن الابتكارات الأصلية لمعظم المفاعلات التجارية الصينية تعود إلى الولايات المتحدة، إلا أن الصين تبني الآن مفاعلات أكثر من بقية العالم مجتمعة من خلال تطبيق تلك الابتكارات على نطاق واسع.
ومع ذلك، فإن طفرة البحث والتطوير في الصين تواجه عقباتها الخاصة، ولكي ينجح الابتكار حقًا في دعم ذلك المناخ الناشىء، يجب أن يكون الاقتصاد الكلي للبلاد في حالة جيدة، ولذا تحاول بكين تبني مجموعة من الإصلاحات لتقليل ديون الاقتصاد الصيني الضخمة والطاقة الإنتاجية المفرطة، من خلال طرق مختلفة مثل استقرار سوق العقارات الوطني، الذي تسببت تعثراته في تقويض ثقة المستهلك. ومع ذلك، تبقى المسارات المتباينة للصين والولايات المتحدة واضحة.
أما بالنسبة لبلاد العم سام، فربما لم يفت الأوان بعد لإنقاذ نظام الابتكار الأمريكي من الضياع، ولكن القيام بذلك سيتطلب جهدًا منسقًا عبر القطاعين العام والخاص، ولابد أن تقوم الجامعات بمقاومة موجة تخفيض العمالة والتدخل الفيدرالي السافر في برامجها البحثية الذي يجري الآن.
وتجارب أرض الواقع تثبت أن صانعي السياسات الأمريكيين لم يأخذوا الابتكار على محمل الجد كأولوية وطنية، فهناك 7% فقط من المشرعين في الكونجرس من أعضاء في الكتلة التكنولوجية العليا، وهي المجموعة الوحيدة في الكونجرس المكرسة لدعم سبل الابتكار، ويتطلب إحياء الدعم الحكومي للعلم والتكنولوجيا أكثر بكثير من مجرد زيادة عدد الأعضاء في الكتلة، وفي ظل غياب أي استراتيجية موثوقة لتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، فإن الائتلاف المناهض للصين سيواصل مكافأة السياسيين المعادين للتواصل الأجنبي بدلًا من مكافأة صانعي القرار في الإدارة الأمريكية الذين يسعون للاستفادة القصوى منه.
ويجب على كلا الحزبين – الديموقراطي والجمهوري – أن يقرا بأن التمويل الفيدرالي للبحث ليس مجرد “هواية حزبية”، بل مصدر للقوة الاقتصادية والسياسية طويلة الأجل، فلقد كان رفض قادة الحزب الجمهوري الانفصال عن “ترامب” للدفاع عن الابتكار الأمريكي مخزيًا، و لكن لا يزال هناك وقت لعكس المسار من خلال الاستماع أكثر إلى قادة الأعمال، الذين يجب عليهم بدورهم أن ينظموا أنفسهم للدفاع عن الصحة الاقتصادية طويلة الأجل للولايات المتحدة، وليس فقط الأولويات قصيرة الأجل مثل التخفيضات الضريبية.
ويجب على أولئك الذين يريدون إنقاذ أجندة الابتكار الأمريكية ألا يكرروا الخطأ نفسه الذي ارتكبه مهندسو العولمة؛ حيث غالبًا ما يؤدي الابتكار الناجح إلى اختلالات في كيفية توزيع مكاسبه، وعندما تشعر قطاعات مهمة من الولايات المتحدة بأنها تُركت خلف الركب، فقد تنقلب ضد الابتكار ذاته.
وبينما يعمل القادة الأمريكيون على تعزيز الابتكار، يجب عليهم معالجة هذه الاختلالات من خلال وضع تعديلات تحد من الدور المفرط للصين كمورد عالمي، وستكون هناك بالتبعية حاجة إلى قيود طوعية منسقة على الصادرات في بعض الحالات؛ مثل البطاريات من الصين إلى الولايات المتحدة والسيارات من الصين إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه، يجب على القادة أيضًا إيجاد طرق للحفاظ على ارتباط وثيق بين العاملين في مجال الابتكار في الولايات المتحدة والصين من خلال تشجيع التعاون العلمي في المجالات الآمنة التي من غير المحتمل أن تثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي، وهو أمر يؤيده بالفعل كبار العلماء في الصين والولايات المتحدة.
وفي الختام، وجب التنويه إلى أن الابتكار لم يعد ترفًا بالنسبة لأمريكا كما كان في السابق؛ بل أصبح “ضرورة وجودية” في ظل صعود الصين يومًا بعد يوم وإحرازها تقدمًا كبيرًا في مجال الابتكار، ولم تزل الولايات المتحدة حتى الآن القائد العالمي في ذاك الصدد بفضل منظومة دعم الابتكار الاستثنائية التي تم إنشاءها بعناية منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن الدفاع عنها لن يكون سهلًا في وجود “ترامب”، كما لن تكون محاولات إعادة بنائها من بين الأنقاض سهلة.