خريطة ملتهبة.. مجموعة شعرية جديدة للشاعر جعفر العلوني

صدر حديثًا عن “دار الساقي” في بيروت ديوان “خريطة تحترق” للشاعر والمترجم السوري المقيم في إسبانيا جعفر العلوني.
يقدم الكتاب محاولة شعرية مفتوحة، تتداخل فيها الجغرافيا بالتاريخ، واللغة بالجسد، والمنفى بالحب، ضمن خريطة تتوهج بالنار.
منذ الصفحات الأولى، يعلن العلوني عن تموضعه الجغرافي في قلب الحريق، جاعلًا من “الخريطة” مركزًا ملتهبًا تدور حوله القصائد.
في قصيدة “صديق الموت”، يفتتح الشاعر المشهد برجل يسير في فضاء مشحون بالغياب، يبحث عن اسمه، عن صوته، عن مكان يحتمل الحياة. لكنّ الشعر وحده، كما يقول، لا يتركه وحيدًا، القصيدة هنا ليست تعبيرًا فحسب، بل وسيلة إنقاذ، ومخرجًا للطوارئ.
يتخذ العلوني من التنقل والهجرة رمزًا للتشظي، ومن الرحلة مجازًا للتعبير عن الذات العربية المشتتة، التي لا تسكن إلا الخرائط أو القصائد، يقول:
“رجلُ المسافات جاءَ متعبًا من كثرة الموتِ على كتفه / جاء متعبًا من ثقل الحياة في صدره / ها أنا، رجل المسافات، أعودُ من حيث لا عودة / لا وقت له، لا مكانٌ، لا قلبٌ ولا دم”.
في القسم الثاني من الكتاب، يظهر العنوان “توقّعات الأبراج للإنسان العربي”، وهو ضرب من الهجاء الكوني، حيث يتحوّل كل برج إلى صورة رمزية للواقع العربي المهترئ: من الحمل، القربان الدائم على مائدة السلطان، إلى الأسد، المحاصر في أحجية الدين والسياسة، مرورًا بـالعذراء التي لا تعيش إلا على هامش جسدها، والعقرب الجندي الذي يلسع الجميع باسم النظام.
إنها ليست قراءة ساخرة للمصير العربي المُعلّق ككرة طائرة في الهواء، بل تراجيديا مُعلّقة على قوس المعنى. كل برج يحمل عبءَ أمةٍ هاوية، وكل طالع يشبه نشرة أخبار عاجلة عن مستقبلٍ عربي مات قبل أن يُولد.
“هكذا أروي حياتي لنفسي” هو عنوان القسم الثالث، وفيه يتفجر النص إلى شظايا مشهدية، نثرية، يتداخل فيها كل شيء. هنا، لا يكتب العلوني قصيدةً بقدر ما ينقّب عن ذاته في ركام اللغة والزمن والذاكرة. إننا لا نقرأ شاعرًا يكتب سيرته الذاتية، بل نواجه كائنًا يعيش بين الرماد والقصيدة، بين الهامش والهوية، وبين الحب والغياب.
ينكسر الزمن في هذا القسم كما تنكسر المرآة. فلا تتبع القصائد ترتيبًا كرونولوجيًّا أو سرديا، بل تتناثر في شكل شذرات أشبه بـنصوص يومية، اعترافات، ومونولوجات داخلية، وهذه ليست مجرد تجزئة شكلية، بل تعبير عن تفكك الذات نفسها، وعن العيش فيما يشبه المنفى الوجودي الدائم، حتى داخل اللغة الأم.
الآخر حاضرٌ دائمًا في الكتاب، ويظهر عبر صوت أنثوي لا يسمّيه الشاعر، بل يمرّ كظلّ، كذاكرة، كاحتمال حياة لم تكتمل. هذا الصوت ليس أنثويًّا فحسب، بل رمزٌ لكل ما كان يمكن أن ينقذ، ويمنح اتزانًا في فوضى الحياة العربية.
في القسم الأخير، “تحوّلات آلية”، يذهب العلوني إلى أقصى درجات التجريب الشعري، ليطرح قصيدة ميتاشعرية تقف على تخوم التحوّل البشري – التقني، حيث يتفكك الجسد، وتتحلّل اللغة، وتُستبدل الحواس بالشرائح، والعاطفة بالدوائر الإلكترونية.
في هذا السياق، يتحول الحب من تجربة مرتبطة بعوالم الجسد، إلى معادلة اتصال بين مخرج ومدخل. اللمسة تُستبدل بـ “الإرسال”، والقبلة تصبح “أرشيفًا”، والحضن “مسار بيانات”.
بهذا التفكيك اللغوي، يعيد العلوني صياغة العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين اللغة والإلكترون، بين الحبر والنبضة الرقمية، وكأنه يتساءل: هل ما يخلق الحياة الآن هو الإله أم الآلة؟ وهل نحن بشرٌ حقاً أم برمجيات قابلة للتحميل؟
يذكر أن جعفر العلوني شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا. من ترجماته إلى العربية: “الجمالية في الفكر الأندلسي” (2024)؛ و”شاعر من تشيلي” (2022)، و”تجريد الفن من النزعة الإنسانية” (2013). من ترجماته إلى الإسبانية: “ديوان الشاعرات العربيات المعاصرات” (2017)، “أول الجسد آخر البحر” (2021)، و”بين الثابت والمتحول” (2023) و”أدونيادا” (2023).