قصة جديدة للكاتب الكبير نبيل نعوم: مِسْبَحَة الإلهة كالى

أمضت السيدة الأمريكية مارجريت هنت عدة أشهر فى كلكتا فى الهند فى منتجع بالقرب من معبد داكشينسوار كالى، يديره أحد أساتذة اليوجا المعروفين والمتخصص فى دراسة الشعائر والطقوس المتعلقة بالإلهة كالى: «كُلِّية الزمن، المحيية والمميتة».
وفى طريق عودتها من رحلتها الطويلة، توقفت فى القاهرة، فى أول زيارة لها بناء على برقية يقترح فيها زوجها المعمارى المشهور بأن تنتهز الفرصة وتقضى عدة أيام بهذه المدينة الرائعة، وأيضا الاتصال بأحد عملائه، رجل الأعمال الشاب أمير المنياوى لتوقيع أحد العقود بالنيابة عنه.
كانت مارجريت فى بداية العقد السادس من عمرها وإن كان بفضل حيويتها وأناقتها من الصعب تحديد عمرها الحقيقى.
فى اليوم التالى لوصولها، وبعد زيارة المتحف المصرى، عادت مارجريت إلى فندق شبرد، وجلست بشرفة حجرتها المطلة على النيل، تراقب غروب الشمس، وقد اكتست السماء بلون أحمر مبهر.
هبط عليها المساء وهى ساكنة فى مقعدها تراقب النهر يتلون ماؤه بانعكاسات الأضواء المتنوعة، تداعب أصابعها مسبحتها الطويلة ذات المائة حبة «مسبحة الإلهة كالى».
تاهت فى ذكريات متعددة، تنقلت بين أماكن وأزمنة مختلفة، حتى توقفت عند صورة أمير. بالأمس مر عليها بالفندق بعد اتصالها به تليفونيا. رحب بها ترحيبا شديدا ودعاها للعشاء بالخارج.
اصطحبها قبل المطعم فى جولة سريعة، وسارا بالشوارع المزدحمة المملوءة بالمحلات المتنوعة. توقفت مبهورة أمام العديد من الواجهات المكدسة بجميع أنواع المنتجات المستوردة والمحلية. كان يفسح لها الطريق إن تكاتف المشاة، وبأدب يفتح لها الأبواب وينتظر حتى تعبر. حدثها وهما بالعشاء بمطعم فاخر عن الأيام الجميلة التى قضاها بالولايات المتحدة وعن تعرفه على زوجها وإعجابه به. وكذلك عن وجهات نظره فى الاقتصاد والسياسة، وعن تفاؤله بمستقبل البلد.
كان يتحدث بفخر وثقة دون أن يفقد صوته نبرة الصدق التى ميزته عن كثير من الآخرين. عند باب الفندق، قال لها بالأمس وهو يودعها بعد يومها الأول فى هذه المدينة المزدحمة والساحرة «لقد رأيت معك اليوم القاهرة من جديد». كانت جملة مؤدبة ورقيقة تحمل الكثير من المجاملة والإطراء، ولكن مارجريت أحست بها تنفذ إلى صميم قلبها، فصدقتها.
توقفت مارجريت عند ذلك القدر من الذكرى. أعادت المسبحة إلى حقيبتها وتركت الشرفة مع دخول الليل، وقررت النزول وحدها لمنطقة وسط القاهرة تسير فى الشوارع التى سارت بها معه فى الليلة السابقة.
دخلت المحل بعد الآخر تعاين البضائع وتتحسس نعومة الأقمشة القطنية الناعمة. أشاع فيها جو الشوارع المزدحمة دفئا خاصا لم تحس به منذ مدة طويلة، فرحلة الشرق الأقصى كانت مقصورة على زيارة معبد الإلهة، والتدريبات الروحية والعقلية حتى تسلك الروح سُبل الخلاص من أغلال الشهوة.
لكن تلك المقابلة القصيرة مع أمير بالأمس أثارت بها فجأة رغبة عنيفة فى العودة إلى عالم الماديات والحسيات المبهر. الانتقال من الرأس الذى يحلم ويفكر ويتخيل إلى الجسد الذى يحس، إلى المعدة التى تشتهى الطعام الطيب وتتلذذ به، إلى الأنف الذى يميز بين الروائح ويتتبع العطر.
تحسست مارجريت بأصابعها حقيبة مصنوعة من جلد الثعبان، وداعبت أناملها القشور قشرة قشرة. لم تشتر أى شىء، ولكنها لم تعد إلى الفندق حتى أغلقت المحلات أبوابها.
اتصلت بمجرد وصولها إلى الفندق بأمير. لم تجده فى منزله، ولكنها وجدته فى مكتبه. سألته إن كان بإمكانه تناول الغداء معها فى الغد. اعتذر آسفا لانشغاله فى أثناء النهار، ولكنه اقترح العشاء.
** فى يوم الخميس ثالث أيام مارجريت بالقاهرة، مر أمير عليها ومعه خطيبته منى لتناول العشاء حسب وعده. كانت منى ترتدى ثوبا أبيض ذا أكمام قصيرة واسعة، وقد تألقت عيناها وكشف لون ثوبها عن خمر بشرتها. قدمها أمير لمارجريت بإعزاز كواحدة من أحلى بنات بلده. سلمت عليها المرأة بحرارة وبابتسامة هادئة.
رحبت بها وهى تدعوها للجلوس: «كم أنت جميلة يا منى». فى مطعم الفندق، تبادلوا الأحاديث المتنوعة، فتكلموا فى التاريخ القديم، وأبدت منى إعجابها بالسينما اليابانية المعاصرة. كرر أمير لمارجريت آماله فى زيادة المشروعات المشتركة بين البلاد المتقدمة والنامية.
أما مارجريت فكى لا يفصح وجهها عما تبطنه مشاعرها، أخرجت فى السر مسبحتها ذات المائة حبة من حقيبة يدها وأخذت تحرك بأصابعها حباتها: «كالى أيتها الإلهة أم الآلهة»، استمرت فى التسبيح محتفظة بابتسامتها الرقيقة، تتابع حديث العاشقين وقد رق بعد أن خفف الشراب من حقيقة وجودها معهما حول المائدة، تتأمل طريقة منى الخاصة فى الحديث والتعبير، وتتخيلها كاهنة بأحد معابد الإلهة إيزيس المقدسة. تتنقل بعينيها بينهما. هذا هو أمير، وهذه هى منى: «كالى أيتها الإلهة أم الآلهة»، أخذت أصابع مارجريت تمر بالحبة بعد الحبة: «أيتها الإلهة المحيية والمهلكة»، تحس بعينى منى تشرقان بالرغبة وتسبحان بوجه أمير، بعنقه، وتغوصان فى صدره لتستقرا بقلبه. ينتفض هو فى مكانه، فيشعل سيجارة، ينفث دخانها نحو معبودته ويحتضنها بدخانه. تميل منى برأسها نحوه. تفتنه، وتضحك الضحكة، الضحكة التى تحيى وتميت: «أيتها الإلهة الظالمة. أنت الرحم والثدى المرضع، وأنت أيضا القبر.. كالى.. كالى.. الرحمة أيتها اليمامة النقية». الحبة بعد الحبة، ومارجريت قد انفصلت عنهما حينئذ، أو فصلاها، ويدها فى حقيبتها المفتوحة تحت المنضدة تداعب الكرات الخشبية: «يا زهرة اللوتس الناطقة بمحبة البشر، هكذا أيضا من جسدك المتآكل، يعود المولود من بدء».
وكتماثيل العذراء بكنائس العصور العتيقة، ارتسمت ابتسامة باردة على شفتى مارجريت، حين نظرها أمير صحا فجأة من غفوته. أطفأ السيجارة، وصرعه ذلك الجمال الذى عتقه الزمن. هذه المرأة التى تجلس معهما. مسز مارجريت ريتشارد هنت، ها هو يراها لأول مرة فى ضوء المطعم الخافت، وقد لفت رقبتها بوشاح أزرق غامق يتناسب لونه مع لون عينيها اللتين لم يعرفا العجز، وثوبها الأنيق، والأسورة الذهب التى تنتهى برأس ثعبان من اليشب الأخضر يعض على ذيله المرصع بالمرجان الأحمر. أحست منى بنفسها وحيدة فى ذلك المكان، وقد لاحظت كيف يغيب عنها أمير ليبحر فى زمان آخر، بامرأة أخرى، تجلس معهما بأحد وجوهها حينئذ. انتابها ضيق لم تهتم به، ولكن تقلصات عضلات بطنها جعلتها تسأل أمير إن كان معه أسبرين. «أيتها الإلهة كالى.. كالى هو اسمك المقدس. افرحى يا سيدتى وليتمجد اسمك». يضحك أمير على أحد تعليقات مارجريت اللماحة. تنتاب منى نوبة أخرى من الألم. تنهض غاضبة وتطلب من أمير أن يرحلا. يحسب أمير لهذا الموقف ألف حساب. يصطحب خطيبته معتذرا وتاركا المرأة التى أبحرت به دون أن ترسيه. أما مارجريت فظلت فترة بعد مغادرتهما المطعم تفكر فيما حدث.
* لمدة أيام لم تعرف منى سبب توعكها أو مبررات تلك الآلام الحادة بأحشائها. قالت الأم تتألم لابنتها «هى عين شريرة وحاسدة». «هو تغير الجو». حاول أمير أن يحثها على عدم الاستسلام. ومنى تكرر اتهامها لمارجريت: «بدأ ونحن معها، بها ونحن معها». أما مارجريت فبعد فشل محاولاتها المستمرة فى رؤية أمير أو الاتصال به، سافرت فى موعدها المحدد دون توقيع العقد، وإن كانت واثقة من إتمامه فى مكان آخر أو زمان.