هند أو أجمل امرأة فى العالم.. سردية عزلة الجسد وتحدى الواقع

هند أو أجمل امرأة فى العالم.. سردية عزلة الجسد وتحدى الواقع

نصوص هدى بركات تضفى صدقا شديدا على أفكار إنسانية بالدرجة الأولى

 

«استكشاف عميق للعلاقة بين أم وابنتها، فى حكاية تتقاطع فيها العزلة مع الرغبة فى الحب»، هى المقاربة التى اعتمدت عليها هدى بركات فى روايتها «هند أو أجمل امرأة فى العالم»، الصادرة عن دار الآداب، وهو الكتاب الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فى دورتها التاسعة عشرة فى فرع الآداب، حيث تمنحنا الكاتبة شخصيات ثرية، تترك أثرًا طويلًا لا يُنسى، وتحديدا بطلتها هنادى، التى تراها عائلتها من أصحاب الهمم، بينما ترى هى نفسها مخلوقًا خارج الحسابات، يعانى من هزائم داخلية.
تسير الرواية على خط زمنى متذبذب، بين ماضٍ وحاضر، بضمير المتكلم، الذى يُعد الأداة السردية الأشد اقترابًا من الداخل الإنسانى. من خلال هذا الضمير، تنسج هدى بركات شبكة من الاستذكارات والاعترافات على لسان هنادى، التى تعود من فرنسا إلى لبنان بعد وفاة والدتها، لتبدأ مرحلة من التأمل فى تفاصيل ماضية، ولقطات من يومياتها، تنطوى على دلالات وجودية غائرة، تحيطها أسئلة تتصل بالخسارة، الإعاقة، الوحدة، والحب غير المشروط.
هذا الحدث المفصلى، موت الأم، يتحول إلى بوابة تنفتح على مراجعة شاملة للذات. هنادى التى بقيت دومًا فى الظل، تجد نفسها وجهًا لوجه مع ذكرياتها، لتفكك العلاقة المعقدة مع أم كانت مصدرًا متناقضًا للحماية والخذلان معًا. هذه الأم التى فقدت ابنتها الكبرى «هند»، الجميلة، تحولت إلى كائن هش، يتقلب بين الألم والحزن، بينما ظلت هنادى، المولودة بمرض «الأكروميغاليا» الذى يسبب تضخمًا غير طبيعى فى أعضاء الجسم، تعانى من وجودها المختلف، المحاط بنظرات الشفقة أو النفور.
تبدأ الرواية برحيل الأم، لكنه غياب يستدعى حضورها الكثيف، لا بوصفها شخصية ميتة، بل كقوة فاعلة داخل السرد. تتبع هنادى أثر هذه المرأة التى كانت تحاصرها برغبتها فى إخفاء ما تراه عيبًا، فتمنعها عن العالم، تحبسها فى غرفة العلية، وتكذب على الآخرين بشأن مكان وجودها، بزعم أنها أرسلتها إلى أقارب بعيدين، هربًا من «ظنونها وتصوراتها عن عيوبها الخلقية». كل ذلك يولد فى نفس البطلة صراعًا محتدمًا بين الرغبة فى الغفران، والاحتياج إلى الاعتراف بجرح الطفولة.
هنادى، حين تصف مراحل نموها، ترسم لوحة قاسية عن التحولات الجسدية التى عصفت بها: وجه لا ينمو بانسجام، ذقن بارز، فك ضخم، عظام مشوهة، حاجبان منتفخان، صوت خشن، وبر كثيف، وشعر كثيف كالأسلاك. لكنها رغم ذلك، تنظر إلى أمها بعين متسامحة، وتقول عنها إنها عانت من مرض ابنتها أكثر مما تألمت هى نفسها. هذه النظرة الرقيقة تُكسب الرواية حسًا عاطفيًا دقيقًا، وتمنح الساردة طاقة نفسية لمواجهة خيباتها.
الراوية هنادى، وعلى الرغم من أنها تعيش بقبح ظاهرى، تظل منشغلة بفكرة الجمال، بل تلاحقها كهاجس دائم. ترى أن عليها أن تكون شبيهة بأمها، الجميلة، الذكية، الفريدة. تحمل اسم «هند» دلالة رمزية، فهى أختها المتوفاة، التى ظلت فى ذهن أمها «أجمل طفلة فى العالم»، كما أن الأم نفسها، بجمالها اللافت، كانت ترى فى الحسن لعنة محتملة، تدعم فكرتها بحكايات متوارثة عن فتيات جميلات انتهين بمصائر قاسية.
هذه الأم، على الرغم من حرمانها من الدراسة بأمر والدها خوفًا من أن يُفتن بها شباب الحى، تحوّلت إلى قارئة شرهة، امرأة ذات شخصية صدامية، لا تتراجع أمام أحد، لا أمام دعاة دين، ولا محامين، ولا مديرى مدارس. هنادى تنظر إليها بإعجاب رغم كل شىء، وتراها رمزًا للصراع والانتصار، لكنها أيضًا كانت الشخص الذى وضعها خلف باب مغلق، بدعوى الحماية، وهى فى حقيقتها كانت تمارس نبذًا مغلفًا بالعاطفة.
الراوية، عبر اعترافاتها، تكشف عن مشاعر غامرة بالضياع، لكنها فى الوقت ذاته تبحث عن معنى أعمق للوجود. الرواية تتجاوز سرد معاناة شخصية لمعوقة، إلى طرح أسئلة شاملة عن الهوية، العلاقة مع الأم، والبحث عن الحب والاعتراف. فى عملها هذا، تقدم بركات تصورًا عن عالم تحكمه ظلال الموتى، وتضع الماضى فى موقع الهيمنة على الحاضر، مشيرة إلى استحالة القطيعة مع من سبقونا.
هنادى تنشغل بجمال مصيره الفناء، الجمال الذى يُعاقب أحيانًا، ويصير عبئًا لا نعمة. وتحاول أن تفهم العالم من حولها، عبر رموز هامشية: فأر مشوه، قط نافق، وجرائد تستعملها فى إشعال نيران مؤقتة داخل علب الصفيح.
فى هذا النص، تمزج بركات بين لغة سهلة، وسرد عميق النَفَس، يتخلله تحليل نفسى دقيق، ومشاهد مشبعة بالدلالة. تتعامل مع الواقع باعتباره مدخلًا لفهم الكينونة، وتُخضع الحكى لأسئلة تتعلق بالذات والعلاقات، والبحث عن الخلاص، أو مجرد التسامح مع الذات، فى حياة أرهقها الغياب، وصاغها الألم.