هاروكي موراكامي.. عدّاء سبرينت يحصد الماراثون

من بين كل الجوائز العالمية التي فاز بها الروائي الياباني هاروكي موراكامي على مدار عقود من الكتابة الإبداعية سعدتُ بشكلٍ خاص بفوزه بجائزة شخصية العام الثقافية أحد فروع جائزة الشيخ زايد للكتاب للعام 2025، ذلك أن مفهومي الشخصي عن “شخصية العام الثقافية” ينبثق من كون هذه الشخصية تُعدُّ مُصدر إلهام وتحفيز لكلِّ مُنتَمٍ للمجال الثقافي، وهو ما أَحتَفي به في موراكامي بانفصالٍ تامّ عن القيمة الفنية لأعماله.
هاروكي موراكامي الذي أراه هو رجل حكيم أدرك مبكرًا أي المراكب يجب أن يقفز منها وأي المراكب تلك التي عليه أن يبحر فيها مهما كلفه ذلك من ثمن. ذلك الرجل الذي اتَّبع تلك الرغبة الغريبة التي راودته في الساعة الواحدة والنصف من ظهر الأول من أبريل عام 1978 حين قرر فجأة كتابة رواية، مع اقتناعه وقتها بأن لن يصبح روائيًا لكنه سيحصل على نتيجة مُرضِيَة له إن اتّبع تلك الرغبة التي تلحّ عليه الآن، وهذا هو جوهر موراكامي العدّاء والروائي: التركيز على الـ سبرينت وليس على الماراثون.
الفرق بين الماراثون والسبرينت أن الأخير هو جري المسافات القصيرة بحد أقصى 400 متر تقريبًا، وهو ما يُجَنِّب ممارِس الجري إنهاك ومخاطرة المسافات الطويلة لكنه مع ذلك يعمل على تقوية عضلات الساق وعضلة القلب ويوسّع مدى تحمّلهما للألم تريجيًا، وبالتدريب على السبرينتات تدريجيًا يطمح العدّاء لدخول الماراثون. أي أنه -موراكامي- يفكّر ويخطط وينفّذ على المدى القريب، على مدى الرواية التي يعمل عليها، السباق الذي يخوضه، ورغم أنه لخّص فكرته عن نفسه بأنه “حصان حمولة” أي شديد التحمّل للتعب والإجهاد في العمل وليس “حصان سباق” فإنني أرى بعد هذا العُمر من الدأب والقدرة على الاستمرار في الجري والكتابة يحتاج هذا الكاتب الفذّ أن يغيِّر فكرته عن نفسه، خاصة أن الكتابة ليست عملًا سهلًا وأن الروائي (حسب رؤيته) يجلس منعزلًا في غرفته بالساعات وربما لنهارٍ كامل كي يُحسِّن سطرًا واحدًا، هذا مع أنه يرى في نفسه- كحصان حمولة- أنه أيضًا صَبور صَبر بَنّاء يضع قالبًا فوق قالب حتى يكتمل البِناء.
“هي نظرية بسيطة جدًا لكنني تعلّمتُها بالتجربة الشخصيّة؛ عليك أن تدير قوّتك البدنية وقوّتك الروحية معًا إلى درجة من التوازن كي تعزز إحداهما الأخرى، وكلما امتدّ زمنُ المعركة زادت أهمية هذه النظرية”.. موراكامي
في كتابه “ما أتحدث عنه حين أتحدثُ عن الجري” وكذلك في كتابه “مهنتي هي الرواية” يقول موراكامي أن كل ما تعلّمه عن الكتابة تعلّمه من ممارسة الجري الذي بدأه بشكل يوميّ في خريف 1982 وكان عمره وقتها 33 عامًا ثم لم ينقطع عنه أبدًا إلا في أيام معدودة. يمكنك أن تتوّقع الفشل لشاب يبدأ في ممارسة رياضة جسدية في عمر الـ33 أو على الأقل أن يصبح ممارسًا عاديًا لهذه لرياضة، لكن أن يُصبح عداءً رسميًا ممن يحملون رقمًا على صدورهم ويشارك في بطولات عالمية بشكل سنوي! كذلك حين توقّع له أصدقاؤه وأقرباؤه أن يفشل مشروع مطعم ونادي الچاز الذي افتتحه كمشروع خاص وهو بعيدٌ كل البُعد عن إدارة الأعمال لكنه أيضًا نجح على عكس المتوقع ثمّ قرر كتابة روايته الأولى ثم أغلق نادي الچاز وتفرّغ للكتابة وحصل لنفسه على مكتب بدلًا من الكتابة على طاولة المطبخ كل ليلة حتى الصباح.
“أعلمُ علم اليقين إني سأندمُ دومًا إن قمتُ بأمرٍ تعوزُه الحماسة”.. موراكامي
حين أغلق موراكامي نادي الچاز اتفق مع زوجته على تغيير نمط حياتهما تمامًا. توقّعتُ هنا أن يحكي عن قراءاته؛ جدول مقابلات مع ناشرين، جولات لترويج الأعمال، تحرير قائمة بأفكار للروايات…. لكن أول وأبرز ما ذكره من تغيير لنمط حياته كان النوم المبكر بعد دخول الليل بوقت قصير والاستيقاظ مع الشروق أو قبله والحصول على قيلولة في وسط اليوم. فقط؟ أهذا هو التغيير الذي طرأ على حياتك! تعجَّبتُ حقًا؛ لكنني بعدما أصبحتُ أتتبعه وأتتبع كلامه عن نفسه من ناحية ووقعتُ في شِباك رواياته من ناحية أدركتُ أنه يضع عينيه على ما يمكنه فعله هنا والآن. وربما هذا هو سرُّه الذي لا يعتبره سرًا ويُلمح إليه في عدة كتابات.
أحد أسباب تفرُّد موراكامي هو الالتزام بنمط حياة سهل بسيط محدد وواضح بالنسبة إليه. يكتب عندما يشعر برغبة حقيقية في الكتابة ولا يجبر نفسه على التطرق لموضوعات سياسية أو اجتماعية بعينها. حياته تجمع بين الحرية المطلقة التي تجعله يتخيَّل قطًا يتكلّم في “كافكا على الشاطئ” أوشَبَح يعود من الماضي في “مقتل الكومنداتور”، لكنه أيضًا يمارس التزامًا خاصًا تجاه عاداته اليوميّة سواء الجري أو الكتابة “حين العمل على كتابة رواية” أو القراءة والترجمة حتى يبدأ العمل في الرواية الجديدة.
“يتطلّبُ تعلُّم أمرٍ جوهريّ في الحياة ألمًا جسديًا في معظم الحالات. فمنذ ذلك الحادث على الدراجة وأنا أبقي رأسي وعيني على الطريق أمامي مهما بلغ منّي التعب”.. موراكامي