لماذا نكره الضرائب.. ولماذا لا تُصلح الدولة؟ (1)

لماذا نكره الضرائب.. ولماذا لا تُصلح الدولة؟ (1)

في أحاديث المصريين اليومية، تتكرر التساؤلات بلا إجابة واضحة: لماذا ندفع الضرائب بينما لا نرى خدمات؟ لماذا تبدو الدولة وكأنها تطالبنا دائمًا بالمزيد، دون أن ينعكس ذلك على جودة حياتنا؟.. هذا الرفض الشعبي المعتاد للضرائب، وإن بدا انفعالًا أو مبالغة، إلا أنه يعكس في جوهره رد فعل منطقي على خلل أعمق في بنية الاقتصاد المصري.

ففي الاقتصادات السليمة، تُعد الضرائب أداة رئيسية لتمويل الإنفاق العام، وتشكل صلة مباشرة بين الدولة والمجتمع، تُستقطع من أموال المواطنين لتعود عليهم بخدمات في التعليم، والصحة، والبنية التحتية، لكن في الحالة المصرية، يفتقر المواطن إلى هذا الربط؛ فلا يشعر بأن ما يدفعه يُترجم إلى منفعة ملموسة، مما يجعل الضريبة في نظره عبئًا مفروضًا – أو جباية إن صح التعبير – لا مساهمة تعكس شراكة في إدارة الشأن العام.

ولا تقف الإشكالية عند المواطن فحسب، بل تمتد إلى مؤسسات الدولة ذاتها، إذ لم تؤسس عبر عقود ماضية سياسة مالية تعتمد على المواطن كممول رئيسي، ورسخت قاعدة أنها ليست في حاجة حقيقية إلى المواطن كممول لا بد أن يكون لديه شروط، حيث استندت الدولة إلى مصادر خارجية مثل: إيرادات قناة السويس، وتحويلات المصريين بالخارج، والدعم الخارجي، وأخيرًا القروض.

ورغم أن هذه الموارد مكنت الحكومة من الإنفاق دون الحاجة إلى قاعدة ضريبية واسعة، إلا أن هذا الوضع عمّق الفجوة بين المجتمع والدولة، وكرّس نموذجًا غير متوازن يستند إلى الإنفاق دون مساءلة، ومع أي محاولة لضبط المعادلة بزيادة العبء الضريبي، تبرز التساؤلات المنطقية حول العائد كما تُواجه بحالة من الرفض أو المجابهة الشعبية المنطقية.

و في هذا السياق، يبرز ما طرحه المفكر الاقتصادي د. حازم الببلاوي، رئيس الوزراء الأسبق، في البحث العظيم الذي نُشر سنة 1987  مع جياكومو لوشيانو بعنوان “الدولة الريعية” حين فرّق “ببلاوي” بين الدولة “المنتِجة”، التي تعتمد على جهد مجتمعها في التمويل، والدولة “الريعية”، التي تعتمد على تدفقات خارجية.

ورغم أن الدولة المصرية مُفترض أن لا تُصنف ضمن الاقتصادات الريعية الخالصة، إلا أن نمطها الاقتصادي يميل بوضوح إلى هذا الاتجاه من حيث الإنتاجية المنخفضة، والمساهمة الضريبية المحدودة، والتمويل القائم على مصادر لا تنبع من قاعدة اقتصادية داخلية، وهو ما أعكف على دراسته بشكل مفصل ضمن بحث علمي يتتبع تطور الحالة المصرية لنظام “شبه ريعي” سوف يُنشر لاحقا.
 

الضرائب نسبة للناتج المحلي في افريقيا

المصدر: OECD

إذ تظهر المؤشرات الدولية، أن نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر تبلغ نحو 12%، وهي من أدنى النسب عالميًا، مقارنة بمتوسط 18% في إفريقيا، وأكثر من 25% في بعض الدول النامية، وهذه الفجوة لا تشير فقط إلى ضعف في التحصيل، بل تكشف عن خلل أعمق في هيكل الاقتصاد، وغياب سياسات فعالة لتوسيع القاعدة الضريبية بشكل منضبط وعادل.

أعلم أنه من الصعب إقناع الناس بالمساهمة الضريبية في ظل غياب التمثيل الحقيقي في أولويات الدولة، وندرة الشفافية بشأن أوجه الإنفاق، كما أنه مع تراكم فجوات الثقة تلك، لا يجوز تحميل المواطن وحده مسؤولية فشل النظام الضريبي، ما يؤكد أن إصلاح فلسفة الإنفاق العام، وتحديث أدوات إعداد الموازنة، يجب أن يكونا أولوية إذا أردنا نظامًا ضريبيًا قابلًا للاستمرار ووضعًا اقتصاديًا مستقرًا.

يظهر ذلك أن أزمة الضرائب في مصر ليست مجرد مسألة مالية، بل تعبير صريح عن أزمة ثقة، وخلل في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، إذ لا يمكن الحديث عن إصلاح ضريبي حقيقي دون إعادة بناء هذه العلاقة على أساس من الشفافية، والمساءلة، والعدالة في توزيع الأعباء والعوائد، وهو ما سوف أتناوله تفصيلا في المقالات القادمة، بمحاولة تفكيك هذه المنظومة وتحليل أدواتها، من أجل تصور مسار أكثر توازنًا بين الحكومة والمجتمع، يحقق جدوى الإصلاحات الضريبية الطموحة التي تعمل عليها وزارة المالية حاليا، بحيث يكون فيها المواطن شريكًا لا مجرد دافعًا للضرائب.