لماذا نكره الضرائب.. ولماذا لا تُصلح الدولة؟ (2) الاقتصاد الريعي.. حين تُؤجَّل الضريبة وتُستَبدل بالدين

لماذا نكره الضرائب.. ولماذا لا تُصلح الدولة؟ (2) الاقتصاد الريعي.. حين تُؤجَّل الضريبة وتُستَبدل بالدين

في المقال الأول من هذه السلسلة، طَرحت فرضية مزعجة لكنها ضرورية، مؤداها أن الإشكالية ليست في أن الدولة تفرض ضرائب كثيرة، بل في أنها لم تبنِ منظومة ضريبية عادلة وقادرة على تمويل وظائفها الأساسية، بما أوجد فجوة بين دور الدولة كضامن للعدالة المالية وبين ما فرضته السياسات المتبعة من كونها مُحصِّل لضريبة لا تعود على المواطن بنفع.

وهذه الإشكالية، لم تأتِ من فراغ، بل من بنية اقتصادية أعمق هي دخول الدولة في وضع الاقتصاد شبه الريعي.. ذلك المفهوم، الذي طرحه الدكتور حازم بُبلاوي في ثمانينيات القرن الماضي، ويمثل حجر الأساس في الورقة البحثية التي أعدّها حاليًا بعنوان The Rentier State 2025، والتي تُعيد تقديم نظرية الدولة الريعية في ضوء التجربة المصرية الممتدة منذ التسعينيات وحتى اليوم، باعتبار الاقتصاد المصري نموذجًا مركبًا لدولة لا تمتلك النفط، لكنها تُدار بعقلية ريعية.

وفي هذه الورقة، أقدّم تحليلًا كمّيًا ومقارنًا يثبت أن الدولة المصرية أضحت تعتمد بشكل هيكلي على مصادر دخل خارجي لا ترتبط بجهد إنتاجي حقيقي، بل ترتكز على تدفقات مثل “تحويلات العاملين بالخارج، ورسوم عبور قناة السويس والمساعدات والمنح الخليجية، والديون السيادية، وغيره.

وهذه التدفقات – وفق نموذج اقتصادي طوّرته في الدراسة- تُفسر أكثر من 60% من تقلبات النمو الاقتصادي في مصر خلال الثلاثة عقود الأخيرة، إذ أن النمو لا يأتي من الإنتاج أو الاستثمار، بل من حجم التمويل الخارجي المتاح في كل فترة زمنية.

وهذا النمط الذي اتضحت معالمه عبر السنوات، يُنتج ما أُطلق عليه في الورقة فجوة الدخل، أي الفارق المزمن بين الإنفاق القومي وبين القدرة الإنتاجية الحقيقية، فالدخول تنمو، لكن دون أن يُقابلها تحسن في الإنتاج أو الصادرات أو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، بما رتب مجتمعا كبير نسبيًا يستهلك أكثر ما يُنتج، ودولة كبيرة نسبيًا تنفق أكثر مما تجمع، واقتصاد هشّ يتذبذب مع كل صدمة خارجية.

وفي تقديري، فإن الإشكالية الأكبر ليست في أرقام الموازنة التي تبرز الاعتماد على التدفقات غير الإنتاجية، بل فيما تخلقه هذه المنظومة من عقلية ريعية جماعية، حيث تعوّل الدولة على القروض بدل الإصلاح، أما المواطن فيترقب الدعم بدل الشراكة، في حين تبحث النخب عن امتيازات بدل خلق فرص.

أخطر التبعات لهذه المنظومة، -كما أسلفت في المقال الأول- هي عدم شعور المواطن بآثار متوقعة فيما يحصل عليه من خدمات نتيجة فرض ضرائب أكثر عليه، لتصبح الضريبة عبئًا سياسيًا لا تعاني الدولة في فرضه، وتؤجل معها العدالة المالية إلى إشعار آخر، بانتظار دفعة خليجية أو برنامج إنقاذ دولي!

ففي حين تعد الضريبة في الدول الحديثة، هي الأداة الأولى لبناء العقد الاجتماعي، إلا أنه في دولة شبه ريعية تتحول إلى استثناء، بينما تُصبح الديون والمساعدات هي القاعدة، ويتولد معها حالة الكره الشعبي للضرائب نتيجة عدم الثقة في أن الدولة تستحق ما تأخذه، لكن المفارقة أن هذه الدولة نفسها ترفض بناء اقتصاد يستطيع أن يفرض ضريبة عادلة ولا يستطيع أن يقوم بدونها خاصة وأنها بدون ريع “حقيقي”.

أما عن المسار المقترح للخروج من هذا الوضع، فهو ما سوف أتناوله في المقال القادم من هذه السلسلة، استنادًا إلى القسم الأخير من ورقتي البحثية، الذي يُقدّم تصورًا عمليًا بعنوان: Pathways Out of Rentierism مداخل الخروج من الحالة الريعية، بإصلاح ضريبي عادل، وإنتاج حقيقي، وتحرير تدريجي من الاعتمادية الخارجية.

فالضريبة ليست عدوًا.. العدو هو اقتصاد لا يُنتج، ودولة لا تُصلِح، وريع مؤقت يُشترى به الوقت لا التنمية.