التعليم المفتوح.. الحائط المائل

في لحظة وعيٍ اجتماعي، وفي محاولة جادة لسد فجوة العدالة التعليمية، أُنشئ نظام التعليم المفتوح في مصر مع بداية الألفية الجديدة، ليمنح الآلاف من أبناء الشعب فرصة طالما حُرموا منها: فرصة الارتقاء العلمي، والحصول على شهادة جامعية، بمن فيهم من حالت ظروفهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو الزمنية دون ذلك في سنوات سابقة.
كان التعليم المفتوح فكرة نبيلة، بل خطوة تنموية حقيقية، إذ لم يكن مجرد باب خلفي للجامعة، بل كان نظامًا أكاديميًا محترمًا، بشروط قبول واضحة، ومناهج جامعية متطابقة مع التعليم النظامي تماما، وأساتذة من داخل نفس الكليات بل أهمها، كانت الشهادة الصادرة عنه شهادة بكالوريوس أو ليسانس معتمدة من الجامعات الحكومية، ومُوقعة من رؤسائها، ومعترف بها من المجلس الأعلى للجامعات.
لكن ما إن بدأ هذا النظام يحقق أهدافه، ويرفع من شأن أبناء الطبقة الكادحة والموظفين البسطاء الذين أتيحت لهم فرصة التسوية بشهادته والترقي في وظائفهم وهناك من الحاصلين على شهادته من التحق بالسلك القضائي بمجلس الدولة ومنهم من ترقى إلى رتبة ضابط، حتى بدأ يتعرض لحملة شرسة من مافيا الجامعات الخاصة والمعاهد الوهمية، التي شعرت بأن التعليم المفتوح يُهدد بيزنسها القائم على تجارة الأمل.. وهكذا، أُطلقت الأبواق المأجورة، وبدأت حملة ممنهجة لتشويه التعليم المفتوح، وتحريض الرأي العام ضده، حتى تم اغتياله إعلاميًا ومعنويًا قبل اغتياله رسميًا.
ولعل أخطر ما في هذا المسار كان ما حدث في نقابة المحامين خلال عهد النقيب السابق سامح عاشور، حين تم الترويج لرفض قيد خريجي التعليم المفتوح، بل وتم تمرير مادة قانونية معيبة دستوريًا، تستثني خريجي هذا النظام من القيد، رغم أنهم درسوا في نفس الكليات، وعلى أيدي نفس الأساتذة، وبنفس المناهج، وتحت نفس الإشراف الجامعي.
المفارقة أن المادة نفسها تستثني حملة الثانوية العامة، رغم أن التعليم المفتوح تأسس أساسًا لمن لم تُتح لهم فرصة التعليم الجامعي بعد الثانوية، ممن اجتهدوا وقرروا استكمال طريقهم بعد سنوات، وهذا قلب للمنطق القانوني والعدالة الدستورية لأن شرط التقدم كان الثانوية العامة أو ما يعادلها وهكذا أصبح المؤهل المتوسط يعادل الثانوية العامة ولا فرق بينهما قانونيا.. وبدلًا من تكريم هؤلاء وتحفيزهم، جرى التنكيل بهم، وشيطنة طريقهم، وتحويلهم إلى حائط مائل يعلّق عليه الجميع فشلهم أو خصوماتهم أو حساباتهم الشخصية.
وتحت هذا الضغط، تم إلغاء النظام الأكاديمي للتعليم المفتوح، واستبداله بنظام “مهني، لا يمنح خريجيه درجة البكالوريوس أو الليسانس، بل مجرد شهادة مهنية، في محاولة بائسة لخلط الأوراق، والتشويش على الوضع القانوني لشهادات حصل عليها الآلاف قبل هذا التغيير.
ومع كل ذلك، بقيت بعض المؤسسات المهنية شامخة بمبادئها، مثل نقابة الصحفيين، التي واصلت القبول بخريجي التعليم المفتوح طالما توفرت فيهم الشروط الأساسية: عمل فعلي، أرشيف مهني، وعقد رسمي، واجتياز لجنة القيد، لم تسأل النقابة عن وسيلة التعليم، بل عن جوهره ومخرجاته وموهبة الصحفي وقدراته وذلك هو الأساس في المهنة ولعل أبرز شيوخها المعروفين كان حاصلا على دبلوم التجارة وتفوق مهنيا بموهبته وثقافته على أساتذة في كلية الإعلام وهو الأستاذ العظيم محمد حسنين هيكل الذي تضع نقابة الصحفيين اسمه على إحدى قاعاتها بالدور الرابع.
لكن بكل أسف فوجئنا مؤخرًا بطرح توصية جديدة داخل النقابة نفسها لمنع قيد خريجي التعليم المفتوح، رغم أن هذا النظام توقف منذ سنوات، وعدد الخريجين الذين ما زالوا يسعون للقيد به لا يتجاوز العشرات بعدما انضم أغلبهم بالفعل إلى النقابة.. ومع ذلك، ورغم أن شهاداتهم صادرة من جامعات حكومية ومعتمدة، يُراد حرمانهم بقرار إداري لا يسنده لا قانون ولا منطق ولا إنسانية.
وهكذا، تتكرر المأساة. يُعاقَب المجتهدون، ويُشكّك في شهاداتهم، وتُطاردهم قرارات لا تستند إلى منطق دستوري ولا احترام تعليمي.. والآن لا سبيل إلا أن الدولة التي أنشأت هذا النظام، واعتمدته، وقبلت طلابه، تنصفهم، لا بحكم العاطفة، بل بحكم القانون، وباحترام الالتزام الرسمي تجاه مواطنيها التي هي ملاذهم الدائم وأمنهم القائم.
فالدولة لا يجب أن تتخلى عن أبنائها، ولا أن تسمح أن يكون التعليم المفتوح هو الحائط المائل الذي يعلّق عليه كل من له هوى معركته أو يجعل اغتياله أهم انجازاته للتغطية على إخفاقاته.
إن كنا نريد نهضة حقيقية، فعلينا ألا نكسر الأيدي التي امتدت نحو العلم رغم الألم، ولا نغلق الأبواب التي فُتحت ذات يوم ليُقال فيها: لك فرصة.. حتى وإن تأخرت.