من باطن الأرض إلى قلب الدولة: التعدين المصري يعود لاعبًا اقتصاديًا

من باطن الأرض إلى قلب الدولة: التعدين المصري يعود لاعبًا اقتصاديًا

لم يكن قرار تحويل هيئة الثروة المعدنية إلى هيئة اقتصادية مجرد تعديل إداري في دفاتر الدولة، بل هو إعلان صريح بأن مصر قررت أخيرًا أن تسترد حقها في ثرواتها الطبيعية، وأن تتعامل مع باطن أرضها بعقلية استثمار لا بعقلية جباية، بعين منتجة لا بعين مراقبة.

لسنوات طويلة، ظلت الثروة المعدنية حبيسة الأدراج والتصاريح، تُعامل كملف ثانوي لا كذراع استراتيجي. وبينما كانت دولٌ أقل موارد تحقق طفرات اقتصادية من التعدين، كنا نحن نُهدر كنوزًا لا تُقدّر بثمن، مكتفين بتصدير الخامات على حالها، دون قيمة مضافة أو رؤية استغلال مستدام.

اليوم، تأتي لحظة التحول. هيئة الثروة المعدنية تتحول إلى كيان اقتصادي مستقل، له صلاحيات مرنة، وأدوات استثمارية، ورؤية إنتاجية، تجعله فاعلًا رئيسيًا في الاقتصاد الوطني. لم تعد الهيئة مجرد جهة تنظيمية تراقب وتمنح التراخيص، بل أصبحت ذراعًا استثمارية قادرة على خلق شراكات، جذب رؤوس أموال، وتطوير سلاسل إنتاج وطنية حقيقية في قلب قطاع التعدين.

هذه النقلة ليست فقط تصحيحًا لمسار متعثر، بل إعادة رسم لخريطة التنمية. فمصر التي تسعى للريادة لا يمكن أن تُبقي ثرواتها تحت الأرض، بينما ترتفع فوق الأرض احتياجاتها وتطلعاتها.

رؤية الوزير المهندس كريم بدوي، التي طرحها مؤخرًا أمام مجلس النواب، حملت ملامح مشروع نهضة شاملة. لم تكن تصريحات دعائية، بل خارطة طريق تبدأ بإعداد خرائط جيولوجية حديثة، وتمر بتأهيل الكوادر، وتصل إلى تكامل مع القطاع الخاص، وتعاون إقليمي ودولي، وإطار قانوني صارم وعادل يضمن الشفافية ويشجع المنافسة.

ولأول مرة، يأتي هذا التحرك في مناخ وطني ناضج، يُقدّر أهمية التنوع الاقتصادي، ويؤمن بأن طريق النهضة يبدأ من الداخل: من الأرض، من العقل، من الإرادة.

لكن تبقى الحقيقة الواضحة: القرار الجريء هو البداية فقط، أما النجاح الحقيقي فيكمن في التنفيذ، في كسر البيروقراطية، في تمكين الكفاءات، وفي خلق مناخ إنتاجي لا يُقصي ولا يُؤمم، بل يفتح الباب واسعًا أمام كل من يملك القدرة والإضافة.

إنها لحظة تاريخية تقول فيها مصر: لن نترك ثرواتنا نهبًا للإهمال بعد الآن.

والسؤال الآن: هل نملك الجرأة لنحوّل هذه الهيئة إلى قصة نجاح؟ وهل نستطيع أن نُثبت أن الاستثمار في الجيولوجيا هو استثمار في المستقبل، في الصناعة، في التصدير، في فرص العمل، وفي قوة الدولة ذاتها؟

الفرصة بين أيدينا… والتاريخ لا ينتظر كثيرًا.