يحيا الصمود

سمعت منذ سنوات طويلة الفنان عادل إمام يتحدث في أحد اللقاءات التليفزيونية بعد عملية عسكرية إسرائيلية في غزة، ويومها سخر من عبارة “الانتصار بالصمود”، قائلًا: “هو في حاجة اسمها انتصرنا بالصمود؟”
ربما في ذلك الوقت كانت قراءته للمشهد غير دقيقة، أو أنه تأثر ببعض الآراء الغريبة التي تُحمّل المقاومة دائمًا مسؤولية كل ما يحدث، وكأنها هي التي جاءت بالاحتلال! والأغرب أن أصحاب هذه الأفكار لا يتطرقون للاحتلال أصلًا، وكأن برمجتهم العقلية تتجه فقط نحو انتقاد المقاومة.. ولا أعلم هل يدركون أنهم يقدمون للكيان المحتل خدمات جليلة بما يقولون أم لا؟
حينما سمعت كلمات “عادل إمام” كنت صغيرًا، لم أكن قد أدركت بعد تعقيدات الواقع، ولا وجع الجغرافيا، ولا فلسفة المقاومة.. وكان لبريق عادل إمام، كنجم أول في وجداننا، سطوةٌ تجعل رأيه أقرب إلى الحقيقة المُطلقة فوجدتني، رغم ميولي الفطرية للمقاومة، أحاول إقناع نفسي بوجهة نظره.
لكن السنوات تمضي، وتتكشّف الحقائق مع الزمن، لا مع الضجيج وجاءت حرب ما بعد السابع من أكتوبر، تلك التي فاقت كل الحروب في بشاعتها، فصارت عملية إبادة ممنهجة ضد شعب أعزل في غزة.
وهنا بدأت فكرة “الصمود” تفرض نفسها عليّ من جديد، لا كحالة شعورية، بل كقيمة حقيقية، كسلاح فعّال، كقوة موازية لقوة السلاح، بل قادرة على التفوق عليها أحيانًا.
الصمود لا يعني الانتصار التقليدي القائم على دحر العدو أو القضاء عليه نهائيًا، لكنه يعني إفشال أهدافه، إنهاكه، كسر معنوياته، وإفشال خططه.. وهذا ما حدث وما يزال يحدث في غزة.
فإسرائيل، رغم امتلاكها آلة حرب جبارة، ولديها دعم أمريكي كامل سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، لم تستطع على مدار 18 شهرًا أن تُحقق أهدافها المعلنة: لم تُعِد أسراها، ولم تُنهِ وجود حماس.. وكل ما تم تحقيقه هو قتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير تام للقطاع بشكل بربري لا مثيل له في التاريخ.
لكن الأعظم من كل ذلك، هو صمود الناس.. فالشعب الفلسطيني في غزة والضفة، لم ينكسر، لم يرحل، ولم يستسلم لليأس والإحباط.. فهم يتوارثون الصمود كما يتوارثون مفاتيح بيوتهم القديمة، ويقولون للعالم كل يوم: نرفض كل مخططات التهجير، ولن نغادر أرضنا ولو قُتلنا فيها.. إنه صمود يستحق أن يُحتفى به، وأن يُكتب عنه، وأن يُقال له: يَحيا الصمود.