القبيلة والمرأة في عصر الشبكات الاجتماعية: من العائق إلى محرك التأثير

تشكِّل القبيلة في المجتمعات العربيَّة رمزًا للهويَّة والانتماء، حيث أدَّت تاريخيًّا دورًا أساسًا في تنظيم الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة. وفي الوقت التي كانت القبيلة تمثِّل حصنًا وغطاءً يحمي النِّساء، إلَّا أنَّها في أحيان كثيرة مثَّلت تحدِّيًا لهنَّ، إذ فرضت تقاليدَ وأعرافًا أدَّت إلى تعقيد فرصهنَّ في التعليم والعمل، وبعض الممارسات في الفضاء العام.
هذا “التعقيد” دفع المرأة إلى الانسحاب من الأنشطة التي قد تُعتبر خارج نطاق الدور التقليديِّ للأنثى؛ ممَّا خلق ستارًا غير مرئيٍّ يمنعها عن الكثير من آمالها وطموحاتها.
يمكننا الاطمئنان إلى القول: إنَّ الأنثى تمثِّل الرمزَ الأسمَى للشَّرف في كثير من المجتمعات، ويتعزَّز هذا في المنظومات القبليَّة، وأيُّ تصرُّف خارج المعايير “القبليَّة” المُتعارف عليها يُمكن أنْ يُفسَّر على أنَّه انحرافٌ. كان يُنظر إلى رغبة المرأة في التَّعليم العام والعالي، والوظيفة على أنَّها تهديد للمعايير القبليَّة سالفة الذكر، في أزمنة مضى؛ ممَّا جعل القبيلة تفرض رقابةً صارمةً على سلوكيَّاتها. إذ كان المجتمع يفرض قيودًا على المرأة؛ لكيلا “يتلوَّث” شرف القبيلة، ما جعل الكثيرات لا يبالغنَ في طموحاتهنَّ، أو يسعينَ لتحقيق أحلامهنَّ، أو يؤجلنها في أفضل الأحوال.
مع دخول عصر وسائل التواصل الاجتماعيِّ، شهدت القبيلة تحوُّلًا جذريًّا في دورها وتأثيرها. فقد أصبحت وسائل التواصل مصدرًا للنفوذ والظهور بجانب مصادر أُخْرى تتفاوت في إيجابيَّاتها أو سلبيَّاتها، ما فتح نافذةً لنساء كُثر للتَّعبير عن أنفسهنَّ بشكلٍ أكثر حريَّة، وباتت تجارب النِّساء وأصواتهنَّ تُسمع على نطاقٍ واسعٍ، وبرز دور مساعد ومحفِّز للقبيلة في الحياة الشخصيَّة، عوضًا عن كونها حاجزًا أو تقييدًا، ظاهرًا كان، أم غير ذلك.
ففي هذا السياق، ظهرت توجُّهات جديدة، حيث أصبحنا نشهد عصر انهمار “الظهور القَبَائلي” للنِّساء. كثير من “رائدات التواصل الاجتماعيِّ” والحاصلات على “مشاهدات” عالية، وممَّن يُصنفنَّ ضمن “المشاهير”، أو “مؤثِّري التواصل الاجتماعيِّ” صرنَ يتوسَّلنَ اسم القبيلة، فلم يعد الانتساب القَبَائلي للتمييز الاجتماعيِّ، بل أصبح وسيلةً لتعزيز الهويَّة الشخصيَّة، وخلق مكانة في المجتمع الافتراضيِّ، تؤدِّي حتمًا إلى أثر ملموس في المجتمع الواقعيِّ.
ليس ذلك فقط، بل أصبحنا نرى شخصيَّات أنثويَّة تنتسب لقبائل لا تنتسب لها في الأصل، رغم الوعيد الدِّيني الشَّديد، إذ يُروى حديث عن النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- حديث “مَن ادَّعى إِلَى غَيْرِ أبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أنَّهُ غَيْرُ أبِيهِ فَالجَنَّةُ عَلَيهِ حَرامٌ”.
تتوسَّع هذه الظاهرة، لتشمل المعرِّفات صورًا للأعلام الوطنيَّة، وصورًا للدول السياحيَّة المراد قضاء أيَّام الصيف فيها، يكبر البازار، وتتنافس فيه أُخْريات لا يمكنهنَّ إثبات نسبهنَّ، لكنهنَّ وللمفارقة يدخلنَ المنافسة بجنسيَّات الدول اللاتي ينتمين إليها، في ظاهرة يبدو أنَّها تستفحل كلَّما استفحلت النَّزعة الاستهلاكيَّة في مجتمع ما.
قد يُعتقد للوهلة الأولى، أنَّ مردَّ ذلك الذيوع والانتشار، وارتفاع نسب المشاهدة، وهذا قد يكون في بعض جوانبه يحمل بعض الصحَّة، إلَّا أنَّه أيضًا يدل على تغيُّر لافت في “أثر” القبيلة في عصر وسائل التواصل الاجتماعيِّ، بعدما كانت قيدًا لا يُستهان به في كثير من الأحيان والحالات، أصبحت وسيلة ترويجيَّة لا يُستهان بها، و”ماركة مسجلة” من أجلها تُكسر محرَّمات كثيرة.
مع هذا التحوُّل، أصبح بإمكان النِّساء الانتماء إلى قبائل دون الحاجة إلى الاتِّصال المباشر بنسبهنَّ؛ ما يُعزِّز من فكرة الهويَّة الذاتيَّة في عصر وسائل التواصل الاجتماعيِّ. ورغم أنَّ ذلك يخالف القيم السائدة في مجتمع ما، فإنَّ الملحوظة المثيرة تشير إلى أنَّ المجتمع لم يعد يقيِّد حريَّة النساء فقط؛ بسبب نسبهنَّ، بل أصبح هذا النَّسب يُستغل بشكل مرغوب فيه لتعزيز المشاهدات والتفاعلات والحضور في الفضاء العام، حتَّى لو كان ذلك على حساب القيم الاجتماعيَّة.
تشير هذه الظواهر إلى توتر متزايد بين قيم ليس بالضرورة تصنيفها بين القديم أو الحديث، حيث تتجاوز النساء المزاعم القَبَائِليَّة لتأسيس هويَّات فريدة. قد يُنظر إلى ذلك بوصفه تحرُّرًا أو خروجًا غير مرغوب فيه، أو اختراقًا للقيم. ومع ذلك، يمكن أنْ تستوعب هذه الظاهرة مزيدًا من الدراسات والاستقراءات لتحليلها بشكل أعمق، ومعرفة ما إذا كان يمكن اعتبارها مفتاحًا لتغيُّر قيم اجتماعية متجذِّرة في بعض المجتمعات.