تجمع الحجاج.. وتجمع النخبة السورية

تجمع الحجاج.. وتجمع النخبة السورية

فيما كانت قلوب ملايين السوريين تفيض بمشاعر الأمل والانتماء خلال موسم الحجِّ، وبينما كانت ألسنتهم تلهجُ بالتكبير والدعاء، كان ملحوظًا غيابُ النُّخَب الثقافيَّة التقدُّميَّة والحداثيَّة والعلمانيَّة السوريَّة عن هذا المشهد الوجدانيِّ الجامع، في صمتٍ بدا أكثر صخبًا من الضجيج ذاته.

لقد حجَّ هذا العام أكثر من عشرين ألف سوريٍّ، في موسمٍ استثنائيٍّ، شكَّل لحظةً روحيَّةً أضفَت، بدورها، كرامةً رمزيَّةً لسوريين أنهكتهم الحرب، ونكَّلت بوجدانهم سنوات التيه والخذلان. ومعهم، كان ثمة ملايين من السوريين يراقبون وجوه أحبابهم على صعيد عرفات، في لحظةٍ جماعيَّةٍ تُشبه النصر، صغيرةٍ في شكلها.. عظيمةٍ في أثرها.

لكن تلك اللحظة، بكل رمزيتها وإنسانيتها وكرامتها، مرَّت مرور الكرام في عيون مَن يُفترض أنَّهم حَمَلةُ مشاعل الوعي والتنوير. فلم يُعلِّقوا عليها بجملة، ولم يرموا لها حتى بنظرةٍ عابرة. وكأنَّها لا تستحق أنْ تُذكر في سياق مَن يدَّعي حمل مشعل الحريَّة والعدالة وكرامة الإنسان.

تبدو المفارقة هنا لافتةً، بل جارحة. فبينما تُشرف دولةٌ سوريةٌ فتيَّة على تنظيم الحجِّ بعناية وكرامة، وتعمل على تأمين ظروف نجاحه، للمرَّة الأولى منذ سنوات طويلة. وفي حين نشاهد كيف احتفت السعودية، دولةً وشعبًا، بالحجَّاج السوريين، ويسَّرت مسيرة حجِّهم بشكلٍ لافتٍ ومتميِّز. نرى مَن اعتادوا التنظير لحقوق الإنسان، وقِيَم المواطنة، والدولة المدنية، لا يلتفتون لمشهد أعادَ جزءًا من الكرامة للمواطنين البسطاء.

لا يكشف هذا التجاهل فقط عن فجوة بين تلك النخب وبين السوريين، وإنما يُعرِّي أزمةً أعمق: أزمةً في فهم الهوية الثقافيَّة للمجتمع السوريِّ، وفي احترام الحيِّز الروحيِّ الذي يسكنه السوريون كأفراد وجماعات. إنَّ الحجَّ، في لحظته الجمعيَّة، ليس مجرَّد شعيرةٍ دينيَّة، وإنَّما هو استعادةٌ لحق السوريِّ بأنْ يشعر بأنَّه ينتمي إلى شيء أعظم من جراحه. إنَّها لحظة يلتقي فيها الإيمان بالوطن، ويتقاطع فيها التاريخ بالوجدان.

سيَّما وأنَّنا كنَّا بإزاءِ مشهدٍ يعبقُ بالمعنى هذا العام، تحديدًا. فالسوري الذي حملَ في قلبه أوجاع الحرب، ومشاهد القصف، ومرارات النزوح، يجد في رحلته هذه رجعةً إلى نفسه، وإلى جذورٍ ضاربةٍ في عمق وجدانه. من هنا، لم تكن خطواته في صعيد عرفة، فقط، سيرًا في المشاعر المقدَّسة، وإنَّما عودةً إلى حقٍّ مُصَادر، إلى وطنٍ رمزيٍّ اسمه الإيمان، وإلى لحظةٍ متجاوزةٍ للعالم المادي، لا يُمسكها العقل، وإنما يحتضنها القلب العائد، بتوقٍ، إلى الحياة، وإلى التاريخ والعالم.

لكن المفارقة، أنَّ كل هذا لم يستدعِ من تلك النخب أيَّ التفاتة.. لا مقالًا، ولا تعليقًا، ولا حتَّى إشارة عابرة. وكأنَّ كل ما جرى ينتمي إلى عالمٍ غريبٍ عنهم، لا يُمثِّل الشعب ولا يستحق التوقف. وكأنَّهم يقولون، بلسان الحال وليس بلسان المقال، إنَّ مشهد الفرح السوريِّ الجماعيِّ هذا إنَّما هو حدثٌ «هامشيٌّ».. لا يليق بنُبل اهتماماتهم. وإنَّهم، وهم المشغولون طوال الوقت بالتنظير لكرامة الإنسان وحقوقه، عجزوا عن رؤية كرامةٍ تحققت فعلًا، ولو على هيئة حلمٍ بسيطٍ تحقَّق لملايين، وهم يشاهدون مواطنيهم الحجَّاج. ليس غريبا، والحال ذاك، أنْ تفرض بعض الأسئلة نفسها بقوة: أليس من الحد الأدنى للثقافة السياسية والاجتماعية أن يلتفت المثقف إلى وجدان شعبه؟ أليس من أبجديات التقدمية التي تتحدث عنها النخب، أنْ تأخذ في الحسبان ما يمس قلوب الناس ويشغل بالهم؟ أليس من أولويات التنوير أنْ يتصل خطابه بالناس؟ أنْ يشعر بآلامهم وأفراحهم؟ أليست الحداثة، قبل أنْ تكون أداة أيديولوجيا، إحساسًا بالكرامة اليومية، ومشاركةً في الأحلام؟.

يجدر القول، في هذا المقام، إنَّه لا أحد يطلب من المثقف أنْ يحجَّ، ولا أنْ يُنظِّر للطقوس، ولا أنْ يتحوَّل إلى واعظ. وإنَّما يطلب منه فقط أنْ يرى الناس. أنْ يصغي إلى وجدانهم. أنْ يعترف بأنَّ مشاعرهم ومناسباتهم، حين تحمل هذا القدر من الأمل المتجدد، تستحق مساحةً في فكرهِ ومقاله، لا أقلَّ ولا أكثر.

وربما آن الأوان أنْ يدرك هؤلاء، أنَّ صيانة كرامة الإنسان لا تمرُّ دائمًا من بوابات المؤتمرات أو الندوات، وإنَّما تبدأ حين يرى المثقف إنسانًا بسيطًا، ويقول له بصمت: أنا أفهمك.. وأراك.

ليس المقامُ، في ختام هذا المقال، مقامَ الغضب لغياب مقالٍ أو تعليق، وإنَّما الاستغراب بأنَّ مَن يُفترضُ بهم أنْ يكونوا أهلًا للوعي؛ لم يكونوا حاضرين، حيث كانت الروح السوريَّة تُعيد اكتشاف نفسها. وهذا الغياب، ولو جاء عن حُسن نيَّةٍ أو انشغال، إلَّا أنَّه يظلُّ إخفاقًا في قراءة نبض وطنٍ يُراد له أنْ يُولد من جديد.

سامحينا أيتها النخب.. فقد كانت مجرَّد أمنيةٍ أنْ تشاركونا فرحةً، هي أعمقُ من كل الشعارات، ونحسبُ أنَّها كانت تستحق المشاركة.