شعب العصر الحجري: أسرار فترة ما قبل التاريخ

في قلب المملكة العربيَّة السعوديَّة، حيث تمتد الحرَّات البركانيَّة اختار قوم حجريون منذ آلاف السنين، بين عامي 10,000 و4,500 قبل الميلاد، العيش عليها، أو على أطرافها.. ترك هؤلاء القوم وراءهم آثارًا حجريَّة غامضة، تشي بحضارة غنيَّة، وحياة يكتنفها الغموض.
أثناء إعدادي لأطروحة الدكتوراة في عام 1980، صادفتُ أوَّل أثر لهم: مثلث حجري يقع على حافَّة فوَّهة بركانيَّة عميقة. لا أدَّعي أنَّني كنتُ أول مَن اكتشفه، لكن عندما استفسرتُ من البدو الرُّحل في المنطقة، قالوا إنَّه «من أيام الزمن القديم».
هذه الآثار تثير العديد من التساؤلات: لماذا اختاروا العيش في الحرَّات البركانيَّة؟ هل كان ذلك بسبب طبيعتها الوعرة، التي توفِّر حماية طبيعيَّة من الأخطار المحيطة؟ فهذه التضاريس الصعبة قد شكَّلت درعًا طبيعيًّا ضد الأعداء، والحيوانات المفترسة. لكنَّ الحماية لم تكن السَّبب الوحيد، إذ إنَّ الحرَّات وفَّرت وفرةًَ من الحجارة البركانيَّة البازلتيَّة، التي استخدمها القوم ببراعة لبناء أشكال هندسيَّة من مستطيلات ودوائر، ما يعكس مهارات متقدِّمة في التصميم والإنشاء. كما عُثر على أدوات حجريَّة مصقولة، يُرجَّح أنَّها استُخدمت في البناء، أو لتقطيع المواد.
ورغم التنقيب، لم يُعثر على مدافن تُذكر، إذْ لم تظهر سوى بقايا بشريَّة نادرة، ما يجعل من الصعب سبر أغوار حياتهم اليوميَّة. مؤخَّرًا، لاحظتُ أنَّ بعض «المذيلات» الحجريَّة تبدو مصطفَّة باتجاهات معيَّنة، ربما كانت تُستخدم كوسائل لتحديد الاتجاهات أو الترميز. أمَّا تلك الدوائر والمستطيلات، فقد تكون رموزًا لطقوس دينيَّة، أو وسائل تواصل بين الجماعات.
من المرجح أن القوم الحجريين لم يكونوا مجرد بنائين، بل ربما كانوا مزارعين أيضاً. فقد بنيت بعض مستوطناتهم قرب الأودية، مما يشير إلى استقرارهم واستغلالهم للموارد الطبيعية المحيطة بهم. ترى، كيف كانت تفاصيل حياتهم اليومية؟ هل عاشوا حياة بسيطة مليئة بالكد والعمل، يصطادون ويزرعون ويعيشون بتناغم مع الطبيعة؟ أم كانوا دائماً في تفكير مستمر حول بقائهم وتحركهم نحو مناطق أكثر أماناً؟
تعطينا آثارهم لمحةً عن علاقتهم العميقة بالبيئة، وتكشف كيف ساهمت الطبيعة في تشكيل هويتهم. فالعلاقة بين الإنسان والمكان كانت في تلك الحقبة أساسيَّة وجوهريَّة. ورغم أنَّ كثيرًا من أسرارهم لا تزال طي الكتمان، فإنَّ الشواهد المتبقيَّة تروي قصة حضارة امتلكت فهمًا متقدِّمًا للمكان والزمان. لم تكن الحرَّات البركانيَّة مجرَّد كتل صخريَّة، بل صفحات من تاريخ يُنتظر أنْ يُقرأ وتُفكَّ رموزه.
ولابُدَّ من التوقُّف عند نقطة أخيرة: لا شكَّ أنَّ هؤلاء القوم كانوا أقوياء البنية، فالتعامل مع صخور البازلت الصلبة والثقيلة، يتطلَّب جهدًا خارقًا. كيف استطاعوا نقلها ورصَّها، بل رفعها إلى أماكن مرتفعة على أطراف الفوَّهات البركانيَّة؟ لا تزال القصة غير مكتملة، ولا يزال أمامنا الكثير لاكتشافه عن حياتهم وثقافتهم الفريدة.