فوج 1445هـ: تحديات الجائحة وإنجازات القيادة

في مسيرة كل نظام تعليميٍّ، تمرُّ لحظات مفصليَّة، تُعيد تشكيل خارطة الأولويَّات، وتُعيد تعريف النجاح، وجائحة كورونا كانت واحدةً من تلك اللحظات الاستثنائيَّة التي عصفت بالأنظمة التعليميَّة حول العالم. لم تكن الجائحة مجرَّد أزمة صحيَّة، بل كانت أكبر تحدٍّ تعليميٍّ عالميٍّ في العصر الحديث، أثَّرت على أكثر من 1.6 مليار طالب في 190 دولةً، وأعادت العالم إلى لحظة تأمُّل كُبْرى في جاهزيَّة المؤسَّسات التعليميَّة وقدرتها على الاستجابة للطوارئ، والتعافي منها.
وفي هذا السياق، يبرز فوج 1445هـ، الذي تخرَّج في المرحلة الثانويَّة؛ بوصفه فوج الجائحة بامتياز. هذا الفوج كان في الصفِّ الأوَّل المتوسط عند بداية الجائحة عام 1441هـ، وفي الصفِّ الثَّاني المتوسط خلال فترة التعليم عن بُعد الكامل في عام 1442هـ، ثم في الصفِّ الثَّالث المتوسط في عام 1443هـ الذي شهد عودة تدريجيَّة للتعليم الحضوريِّ.
هذا يعني أنَّ الفوج عاش ثلاث سنوات دراسيَّة حرجة، في بيئة تعليميَّة مضطربة، وهي المرحلة التي تُبنى فيها معظم المهارات العُليا في الفهم، التحليل، والتهيئة الأكاديميَّة. وبالتَّالي، فمن الطبيعيِّ أنْ يُتوقَّع لهذا الفوج أنْ يُظهر نتائج أقل من الفوج السابق له؛ بسبب ما تُعرف بـ”الفجوة التعليميَّة”، وهي مصطلح يُستخدم لوصف الفاقد التربويِّ والمعرفيِّ الناتج عن تعطُّل التعلُّم أو ضعفه.
وفقًا للتقارير المحليَّة والعالميَّة، تراوحت نسبة الفجوة التعليميَّة الناتجة عن الجائحة بين 20% إلى 35% في المهارات الأساسيَّة، خصوصًا في مجالي القراءة والرياضيَّات، وهي المجالات التي تُعدُّ حجر الأساس في بناء قدرات التفكير العُليا. وقد قدَّرت بعض الدراسات الدوليَّة مثل تقارير البنك الدولي، واليونسكو، أنَّ بعض الطلاب خسروا ما يعادل 6 أشهر إلى سنة دراسيَّة كاملة من التعلُّم الفعَّال؛ بسبب التعلُّم عن بُعد غير المتوازن، وضعف التفاعل، وانقطاع السياقات الصفيَّة.
ومع هذا الواقع الصعب، أبهرت الهيئة الملكيَّة بينبع، المجتمع التربويَّ بتحقيق المركز الأوَّل على مستوى المملكة في مؤشر القدرات والتحصيليِّ لعام 1445هـ، متفوِّقةً على 48 إدارة تعليميَّة، وبفارق تجاوز 6 نسب مئويَّة عن متوسط المملكة.
السؤال المحوري هنا ليس فقط: كيف حقَّقوا هذا الإنجاز؟ بل: كيف تجاوزوا تأثير ثلاث سنوات حرجة من الفجوة التعليميَّة؟
الجواب يكمن في منهجيَّة العمل العميقة، التي تبنَّتها الهيئة، والتي اعتمدت على:
– إستراتيجيَّات تعليميَّة معزَّزة بالتقويم التشخيصيِّ والمعالجة الفوريَّة.
– برامج تطوير مهني مستدامة للمعلِّمين، ركَّزت على المهارات الصفيَّة الحيويَّة.
– ثقافة مؤسسيَّة تؤمن بأنَّ الجودة ليست شعارًا، بل ممارسة يوميَّة.
– بيئة تعليميَّة رقميَّة داعمة استثمرت التقنية لدعم المعلِّم لا لتعويضه.
إنَّ ما حققته الهيئة الملكيَّة بينبع، مع فوج 1445هـ هو نموذج وطني في كيفيَّة تحويل التحدِّيات إلى قصص نجاح، وهو أكبر برهان على أنَّ الأزمات لا تُعيق التميُّز، بل قد تصنعه إذا توفرت القيادة، والإرادة، والرُّؤية الواضحة.
ختامًا، هذه التجربة تُلزمنا جميعًا -كمجتمعٍ تعليميٍّ- بأنْ نعيد التفكير في طرق دعم الفاقد التعليميِّ، وأهميَّة بناء أنظمة تعليميَّة مرنة قادرة على الصمود، لا فقط في مواجهة الجوائح، بل في مواجهة المستقبل بكل تحوُّلاته.