إيلاف الكرام: العلاقات بين السعودية وسوريا

إيلاف الكرام: العلاقات بين السعودية وسوريا

أنْ يُسجِّلَ القرآنُ الكريم، بطريقته الخاصَّة، تلك العلاقة (الإستراتيجيَّة) بين هاتين البقعتين من أرض الله الواسعة، قبلَ أربعة عشر قرنًا، فذلك شأنٌ عظيم.

ثمة (إيلافٌ)، في تلك العلاقة، لا تكادُ تُحصى معانيه، ولا يستطيع سوى قرآنٌ منزَّلٌ من السماء، أنْ يشير إليه. بحيث يُصبح دورُنا، وتغدو مسؤوليتنا، أنْ (نقرأ) في آفاق هذا اللفظ، ودلالاته، ومستتبعاته العمليَّة المطلوبة، بكل ما في الوسع من شموليَّةٍ تضمَّنها أمرُ القراءة الأوَّل، في مطلعِ التنزيل.

وإذ أسهب المفسرون، على مدى التاريخ الإسلامي، في البحث عن معاني لفظة (إيلاف) لغويًّا. غير أنَّ واقعنا المعاصر، بأدوات بحثه وتحليله، يفتح أفقًا أوسع لما قد يكون فاتهم، بحكم خصوصيَّة الأزمان الماضية. يتمثَّل هذا بالتفكُّرُ في محلِّ التنزيل العمليِّ لذلك المصطلح، بمنطق الاجتماع البشريِّ، من ناحية، والجغرافيا السياسيَّة لأهل تلك الرحلة التليدة، بين مكَّة ودمشق، من ناحيةٍ ثانية.

نحن هنا بإزاءِ أُلفةٍ وتأليفٍ، وتآلفٍ، ثم ائتلاف، تنغرسُ جميعًا جذرًا عميقًا في عملية الإيلاف التي أجمع مفسرون على أنَّها تندرج في مهمَّة «التجهيز والتهيئة». وتلكما مهمَّتان ربط بعضُ أهل التفسير بينهما في هذه السورة، وبين مضامين ودلالات سورة (الفيل)، التي سبقتها في ترتيب المصحف، بتوقيف الرسول -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

من هنا، إجمالًا، لا يبدو الموقفُ السعوديُّ من سوريا المحرَّرة، غريبًا على الإطلاق. إلَّا لمن كان غريبًا على تلك الحقائق التاريخيَّة، وتنزيلها المعاصر، حضاريًّا وإستراتيجيًّا.

ومن هنا، تفصيلًا، دعمت المملكة الرئيس السوري أحمد الشرع منذ الأيام الأولى لحكومته. حيث كانت أوَّل طائرة هبطت في سوريا بعد سقوط الأسد، طائرة سعوديَّة، كما زار سوريا وفد سعودي بتاريخ ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٤م، ثم زارها سمو وزير الخارجيَّة، والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، في ٢٤ يناير ٢٠٢٥م، وعبَّر عن دعم المملكة لسوريا وشعبها الشقيق.

ثم جاءت، امتدادًا لجهودها في دعم سوريا، ورئيسها أحمد الشرع، استضافة المملكة لاجتماعات الرياض بشأن سوريا، بمشاركة واسعة من الدول العربيَّة، والولايات المتحدة الأمريكيَّة، والدول الأوروبيَّة، والمنظَّمات الدوليَّة، لبحث خطوات دعم الشعب السوري، وتقديم العون والمساندة له، ومساعدته في إعادة بناء سوريا.

وفي نفس السياق. قادت المملكة جهدًا دبلوماسيًّا نشطًا لدعوة الأطراف الدولية لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، حتى تكلَّلت جهودها بإعلان الرئيس الأمريكي رفع العقوبات الأمريكيَّة المفروضة على سوريا، تلبيةً لطلبٍ خاصٍّ، من الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي.

أمَّا تتويج كل تلك الجهود، فقد تمثَّل في استضافة المملكة للاجتماع بين الرئيس السوري أحمد الشرع، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. والذي مثَّلَ حدثًا تاريخيًّا بكل المعاني. إذ يُعتبر هذا أوَّل لقاء أمريكي سوري على مستوى القيادة من قرابة ٢٥ عامًا؛ ممَّا يعكس دعم المملكة لحكومة الشرع، وحرصها على تعزيز علاقات سوريا مع القوى الدوليَّة المؤثِّرة.

وثمة أمورٌ ثلاثة يجدر التفكير بها، عند البحث في دلالات هذا الحدث. يكمن أوَّلها في إظهار درجة تقدير الرئيس الأمريكي لمكانة المملكة وقيادتها المتميِّزة، وحرصه على دعم مبادراتها الرَّامية لرفع معاناة الشعب السوري الشقيق، وتعزيز أمن واستقرار المنطقة. ويتمثَّل الثاني في كون ما جرى امتدادًا لجهودها المستمرَّة لتعزيز الأمن والاستقرار الدوليَّين، واستكمالًا لمبادراتها المستمرة والتاريخيَّة لإعادة سوريا إلى محيطها العربي، والتأكيد على وحدة أراضيها واستقلالها، ورفض التدخلات الأجنبيَّة في شؤونها. ويتمثَّل الثالث في تبيان حرص المملكة على التنسيق مع جميع الأطراف الإقليميَّة المعنيَّة بالملف السوري، وعلى مواءمة جهودها الرَّامية لدعم الحكومة السوريَّة مع جهود الجمهوريَّة التركيَّة ودول المنطقة، بما يحقق التكامل، وتضافر الجهود التي تهدف إلى رفع معاناة الشعب السوري، ودعم أمنه واستقراره.

والمؤكَّد أنَّ هذا الحدث لم يكن ليخرج إلى النور، لولا تقدير المملكة للخطوات الإيجابيَّة التي قامت بها الحكومة السوريَّة في اتِّخاذ نهج الحوار مع الأطراف السوريَّة، والتزامها بمكافحة الإرهاب، وحرصها على استيعاب جميع مكوِّنات الشعب السوري، بما يعزِّز دور سوريا في دعم نظام الأمن الإقليميِّ.

وهذا كله سياق في التفكير السياسي الإستراتيجي السعودي، متميز وخلاق، لا يعلم بقيمته العملية إلا السوريون أنفسهم. ذلك أن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، بوساطة سعودية، لن يسهم إلا في تعزيز أمن واستقرار سوريا، وإنجاح العملية الانتقالية، ودعم الحكومة السورية في التصدي لما تواجهه من تحديات اقتصادية، والإسهام في رفع المعاناة عن الشعب السوري.

وفي قلب هذا الحدث المهيب،ثمة مشهدٌ لن ينساه السوريون، ما تقلبت الأيام، وسيظل مطبوعًا في ذاكرتهم، وذاكرة أجيالهم، متمثِّلًا في حركة الأمير محمد بن سلمان، بوضع يديه على صدره لحظة إعلان ترامب رفع العقوبات. وهي حركةٌ كررها، بالتوثيق والتصوير، عشرات آلاف السوريين، على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الإعلام، موجهةً لسموه الكريم شخصيًّا، عرفانًا وامتنانًا. وابتهاجًا بعملية رفع العقوبات، والتي ستكون أكبر المداخل لرفع المعاناة عن الشعب السوري، ولدعمه سياسيًّا واقتصاديًّا وإنسانيَّا.