نيوم… عندما تسعى مدينة لتغيير مفهوم الحياة

نيوم… عندما تسعى مدينة لتغيير مفهوم الحياة

نيوم ليست مشروعًا عمرانيًا ضخمًا فحسب، بل هي طرح فكري وثقافي وإنساني يطرح سؤالًا بسيطًا وعميقًا في آن: ماذا لو أُتيحت لنا الفرصة لبناء مدينة من جديد، دون قيود الماضي، وبتقنيات الحاضر، وخيال المستقبل؟ كيف يمكن أن نعيش؟ وما الذي يمكن أن يتغير فينا كبشر؟

من بين مكونات نيوم، تبرز “ذا لاين”؛ المدينة الخطية التي توحي من اسمها بأنها شيء مختلف تمامًا.. شريط عمراني ضيق، يمتد بشكل مستقيم، محاط بجدارين زجاجيين، ويعد سكانه بحياة بلا سيارات، بلا ضجيج، وبتنقل لا يتجاوز 20 دقيقة بين أي نقطتين. فكرة ساحرة، لكنها أيضًا تطرح تساؤلات إنسانية عميقة: كيف سيكون شعور الإنسان وهو يعيش بين حائطين؟ هل سيشعر بالاتساع أم بالضيق؟ وهل سيتغير مفهوم “الحي” و”الشارع” و”الزاوية المفضلة” في مدينة لا زوايا فيها؟

ربما، للمرة الأولى، سنحتاج إلى علم نفس حضري جديد، ودراسات اجتماعية غير تقليدية، لفهم كيف يتأقلم الإنسان في بيئة مخططة بهذا الشكل الدقيق. كيف ستتشكل العلاقات الاجتماعية؟ هل ستقربنا المسافات القصيرة من بعضنا، أم تجعلنا أكثر عزلة؟ وماذا عن الأطفال الذين سيولدون هناك، في مدينة لا تشبه المدن؟ كيف سيكتبون ذكرياتهم؟ وعلى ماذا سينظرون من نوافذهم؟

وفي الوقت ذاته، فإن نيوم، بهذا الشكل المتفرد، قد تفتح الباب لتخصصات علمية ومجالات لم نعرفها من قبل. علوم تربط بين الهندسة والبيئة، بين الروبوتات والمشاعر، بين البيانات الضخمة وحياة الفرد اليومية. ومن العلوم التي يُتوقع أن تتغير جذريًا “إدارة التغيير”، إذ من المرجح أن تظهر على الأقل نظرية جديدة واحدة في هذا المجال، تنبع من واقع التغيير الجذري الذي تمثله نيوم في مفاهيم التخطيط والمعيشة والعمل.

وقد نرى رسائل ماجستير ودكتوراه لدراسة الحياة في نيوم تحديدًا، لا لكونها مكانًا، بل لكونها تجربة إنسانية فريدة تستحق البحث والتحليل.

وأعتقد أن الأثر لن يبقى داخل حدود المدينة. فوجود نيوم داخل السعودية، بجمالها الطموح وتفاصيلها الفريدة، سيجعل باقي مدن المملكة تتأثر حتى لو بشكل غير مباشر. سيبدأ الناس بالمقارنة، بالطلب، بالتفكير بشكل مختلف. وربما تتحول نيوم إلى مرآة للمستقبل تُرينا ما يمكن أن نكون عليه إذا توافرت الإرادة والرؤية والخيال.

ومن الجوانب المهمة أيضًا، الأثر المالي الإيجابي الضخم المتوقع لهذا المشروع كرَافد للاقتصاد السعودي، حيث تشير التقديرات إلى قدرته على إحداث نقلة نوعية في مصادر الدخل غير النفطي. ومن خلال تجربتي الشخصية مع الكفاءات السعودية، فهي قادرة على إدارة هذا النوع من المشاريع بكفاءة عالية، وهو ما لا يتعارض مع الاستفادة من الخبرات العالمية. ذلك لأن الإيقاع في هذا المشروع مختلف تمامًا عن أي مشروع آخر على الأرض، مما يجعله تجربة فريدة للجميع. ومن المهم تسليط الضوء على التحديات الجديدة المتوقعة في عالم إدارة المشاريع، والعمل على تضافر الجهود لوضع حلول ابتكارية، الأمر الذي سيُسهم -بلا شك- في وضع السعودية في موقع متقدم جدًا، إن لم يكن الموقع الوحيد عالميًا، في بعض الجوانب الخاصة بالتطوير الحضري وإدارة محافظ المشاريع.

أما على مستوى العالم، فالقصة أكبر من مشروع سعودي. إنها قصة إنسانية بامتياز. قصة تحكي عن شجاعة أن نحلم، أن نغامر، أن نعيد طرح الأسئلة القديمة بطرق جديدة. العالم بأسره قد يستفيد من هذه الفكرة.. لأنها ببساطة تدفعنا للتفكير خارج المألوف، وإعادة النظر في علاقتنا بمدننا، ببيئتنا، وبأنفسنا أيضًا.

* خبير إدارة المشاريع والتحول