د. عبدالعزيز خوجة يتناول عشق الكيمياء وأسرار الحب الكيميائي.

د. عبدالعزيز خوجة يتناول عشق الكيمياء وأسرار الحب الكيميائي.

لابُدَّ أنْ أعترف، ذهبتُ إلى وزير الثقافة والإعلام الأسبق، وسفير المملكة الأسبق في عدَّة دول أجنبيَّة وعربيَّة، الشاعر الدكتور عبدالعزيز خوجة، بنحو عشرين سؤالًا، وعدتُ بإجابة سؤال واحد.

والحق أنَّ الدكتور خوجة استقبلني كضيف، أو كصديق قديم، لنتَّفق على زمان ومكان الحوار؛ مراعاة لوقته من جهة، ولظروف بقائي في جدَّة من جهةٍ أُخْرى.. ولأنَّه أدرك بلماحيَّته المعتادة أنَّني جاهز بالأسئلة، فقد طلب بلباقته المعهودة، أنْ يعرف طبيعة الحوار؛ كي يستعد له، ويتحيَّن الوقت الذي سنجريه فيه، حتَّى ولو بوسيلة من وسائل الاتصال الحديث، إذا اضطررتُ للسفر؛ ولأنَّ أسئلتي كانت تحلِّق في الأدب والفكر.. في الإعلام، والدبلوماسيَّة، والشعر .. في حب الكيمياء، وكيمياء الحب.. فقد هش الدكتور خوجة، في وجهي، وهو يعيد السؤال: ما الذي فعلته بكم ولكم الكيمياء على الأصعدة الثلاثة: الفكر، والشعر، والدبلوماسيَّة؟

– قال الدكتور عبدالعزيز: هذا سؤال جميل، فلننتقل إلى غرفة المكتب، هذا بالفعل سؤال جميل، سأجيبك عنه الآن! وبطبيعة الحال، ومع تراكم الوقفات الجميلة، تشعَّبت «عناصر» السؤال، و»تفاعلت» معه الإجابات، ورحنا نحلِّق في فضاء فكري جميل وفسيح.

علَّمتني الصبر !

سؤال جميل، فالكيمياء فعلًا لها تأثير كبير في حياتي، بل إنَّني أعتبر الكيمياء هي الحياة. ففي حياتك كلها تتنفس، تأكل، تتحدث، هي كلها تفاعلات كيميائيَّة، بكل ما تحمله الكلمة من معني، حتَّى علاقتك بالآخرين تحكمها الكيمياء، فيُقال مثلًا: «مفيش كيميا بين فلان وفلان، ما في كيمستري».. صحيح هذا الكلام.

ومن ثم أقول لك: إنَّ الكيمياء لها دور رئيس في تكويني الفكري. لقد علَّمتني كيف أفكِّر، لا أتسرَّع في إعطاء الرأي في أيِّ مسألة، لا أتسرَّع عاطفيًّا في إبداء أيِّ حكم، علَّمتني كيف أضع الأمور في نصابها، وكيف أفكِّر بطريقة منطقيَّة تمامًا ولا أتسرَّع.

لقد علَّمتني الصبر. فالتفاعل الكيميائي لابُدَّ أنْ يأخذ وقته، وكذلك بالنسبة للحياة، فهناك أشياء لابُدَّ أنْ تأخذ وقتها، وكثيرًا ما تكون هناك أعمال ليست كاملة، ولها أمور جانبيَّة؛ لأنَّها لم تأخذ وقتها من التفاعل.. ففي الكيميَّاء مثلًا يتفاعل عنصر «إي»، مع عنصر «بي»؛ لكي يكون المنتج «إي بي» في النهاية، لكن أحيانًا يخرج «إي بي» صحيحًا، لكن في ظروف معيَّنة، وبكميَّة محدَّدة.. أو تحدث نواتج جانبيَّة أخرى، وتكتشف أحيانًا أنَّ هذه النواتج غير مفيدة. وكذلك الحياة.. وأنت في الحالتين تستعجب كيف حدث ذلك؟

مثل هذا الأمر يحدث فجأةً في السياسة.. تسمع أنَّه في البلد الفلاني، حدث هذا الأمر فجأةً، وأنت لا تلم بظروفه الاقتصاديَّة مثلًا، وبالتَّالي لابُدَّ من الإلمام -قدر الإمكان- بكل العناصر.. هكذا الكيمياء.

«ما في كيمستري»

الكيمياء مادَّة جافَّة، وكان يُعتقد في المرحلة الثانويَّة والجامعيَّة أنَّها مادَّة جافَّة، لكن إذا عرفت سر ميكانيكيَّة التفاعل في الكيمياء، ستعرف أنَّها عمليَّة جميلة للغاية، بل عمليَّة إبداعيَّة، كأنَّك تكتب شعرًا، وتستطيع أنْ تبدع وأنت تجمع معنى من هنا، وآخر من هناك، في أجواء إبداعيَّة جميلة، ولذلك ترى الإبداع في منتجات الأدوية، وكافَّة الصناعات؛ نتيجة هذا التفكير وهذا الإبداع.

وكما ذكرت أنت، ففي العلاقات تلعب الكيمياء دورًا كبيرًا، ما بين شخص وآخر، بينك وبين إنسان لم تكن تعرفهّ، بل بين رجل وامرأة طيبين.. الرجل محترم وخلوق، وكذا المرأة جميلة ومهذَّبة، يتزوَّجان، ثم ينفصلان، لكن لا توجد كيمياء بينهما.. هي تتزوَّج بآخر، فتعيش معه في قمَّة السعادة، وهو يتزوَّج بأُخْرى فيصبح في منتهي السعادة.. الناس تتعجَّب فلم يحدث خطأ بينهما.. لكن لا توجد كيمياء بينهما.

القصيدة الهاربة

* وماذا عن القصيدة؟ هل تستعصي عليك أحيانًا فترفض التوهج؟!

– القصيدة عمل إبداعي محض.. والعمل الإبداعي عند أيِّ شاعر حقيقيٍّ لا مجرَّد ناظم للشعر، هو عمل خاص، أتحدَّث هنا عن الشاعر الملهم، الشاعر المبدع الحقيقي، الذي لابُدَّ أنْ يعاني ويكابد، إنَّه ليس مجرَّد ناظم يعرف بحور الشعر، يعرف الوزن والقافية؛ لكنَّه لا يحس بقصيدته. مثل هذا الشاعر أشبه بما يفعله الذكاء الاصطناعيَّ. أمَّا العمل الإبداعي فأمر مختلف، إنَّه عمل مرهق، ومن ثم فإنَّ القصيدة عند الشاعر الحقيقيِّ هي التي تتلبَّس الشاعر؛ كي تحتله، وأحيانًا إذا لم يتجاوب معها تهرب منه، ومن ثم فإنَّ الشاعر الحقيقي الملهم، لابُدَّ أنْ يكون جاهزًا ومروِّضًا لها، كالفارس الذكيِّ، وإلَّا هربت القصيدة الجموح منه.

«أوشوشها وتوشوشني»

* هل حدث معكم شيء من هذا؟ هل هربت منكم يومًا؟!

– نعم حدث هذا معي، تأتيني الفكرة، أو القصيدة ليلًا وأنا أمتثل للنَّوم، فإنْ قمتُ لها وسجَّلتها كتبتها بجمال وانسيابيَّة، وإذا استسلمت للنَّوم، استيقظتُ في الصباح فإذا بها تبخَّرت من ذاكرتي بالكامل، وهذا أمر محزن. ومن ثم فإذا جاءت القصيدة فلابُدَّ من القيام لها، بل واحترامها واستقبالها. أوشوشها وتوشوشني، تكتبني وأكتبها، وإلَّا ضاعت مني. إنَّها مخرون فكري لابُدَّ من تفجُّره في الوقت المناسب. الشاعر أحيانًا يلتقط كلمة أو فكرة، فإذا اختمرت وتبلورت فيما بعد ستخرج في شكل إبداعي مثير.. وقد تأتي في رائحة عطر، في لحن، في أغنية، في زهرة، ثم تأتي مرحلة الكتابة، فتهندسها وتنمِّقها وتنسِّق حروفها وكلماتها، بل وتمسح الغبار عنها. هذا هو الفرق بين الشاعر الحقيقيِّ وغيره. وعلى سبيل المثال، انظر إلى المقامات الموسيقيَّة، فالموسيقار المبدع هو الذي يضفي عليها شخصيَّته وخصوصيَّته.. هذا هو الإبداع الحقيقي.

الدبلوماسيَّة رسالة وطن

* قلت له: الآن وصلنا لمرحلة الدبلوماسيَّة.. كيف كان للكيمياء دورها في مسيرتكم؟! خاصَّة وأنَّ بعض المهمَّات لا تحتمل العواطف؟

– السفير في كل الأحوال هو ممثِّل بلاده، في كل صغيرة وكبيرة، ويعي سياسة بلاده بالكامل، وهو هنا يجب أنْ يتجرَّد من أيِّ أفكار، وينشغل بهموم بلده، وتعليمات قيادته لتنفيذها حرفيًّا. والأمر هنا يعتمد على مقدرة السفير في تمثيل إرادة قيادة بلده بالطريقة المثاليَّة، خاصَّة وأنَّ لكل بلد سياسته، ولكل بلد خصوصيَّاته، فإذا تكلمت عن بلدي، عرفت ثقلها السياسي، ثقلها الاقتصادي، وثقلها العربي والإسلامي، ومن ثم ينبغي على السفير أنْ يعبِّر ويمثِّل هذا الصقل بكامله خير تمثيل، في تحرُّكاته، في انتقاء كلماته، في حواراته، في اجتماعاته، في أيِّ حفلة أو منتدى.. السفير ليس مهمَّته ترفيهيَّة.. إنَّها مهمَّة صعبة للغاية لمن يعرف ثقلها ووزنها، وفي حالتنا السعوديَّة أنت سفير خادم الحرمين الشَّريفين، هنا ينبغي أنْ يكون السفير مثقفًا، ويعرف لغة البلد الموجود فيها. ومن ثم فإنَّ التفاعلات هنا منضبطة بخلفيَّات ثقافيَّة ومعرفيَّة ولغويَّة.. وقبل ذلك وبعده التوفيق من الله تعالى.

الإعلام.. إخلاص وإبداع

* وماذا عن الكيميَّاء والإعلام؟ ماذا عن الفترة التي قضيتها وزيرًا للإعلام؟ هل كانت أكثر الفترات قلقًا وتوترًا وتفاعلًا؟

– الإعلام عالم متغيِّر ومتوتر، ويجب أنْ يكون حضور الإنسان فيه 24 ساعة. لقد قضيتُ فترتين في الإعلام.. الأولى وكيلًا للوزارة، والثانية وزيرًا.. وأستطيع أنْ أقول إنَّ الإعلام وضعه مختلف تمامًا، ومَن يتصدَّى للإعلام عمومًا ينبغي بالفعل أنْ يكون مخلصًا، لمهنته، ورسالته، ولبلده، إنَّه عمل مرهق، وعمل إبداعي في الوقت ذاته، وينبغي للمرء أنْ يدرك أبعاد كل حدث، وحساسيته، وخطورته، وما وراءه، ومن ثمَّ يمتلك القدرة على تحليلها وتقديمها لولاة الأمر، واضحة جليَّة وناصعة، وبطبيعة الحال يختلف الحدث من بلد لآخر، ومن ثمَّ تختلف مسبباته وظروفه. إنَّ العمل الإبداعي عمومًا عمل مرهق، وينبغي أنْ يكون الإعلامي في أيَّ موقع منتبهًا ويقظًا، سواء كان صحفيًّا، أو مذيعًا، أو محاورًا، أو مُعدًّا، أو مُخرجًا.. خصوصًا في وقتنا الحاضر بعد أنْ تشعَّبت عناصر وأدوات الإعلام بفعل التواصل الاجتماعيِّ، واختلاط الحقيقة بالزَّيف. إنَّها المهمَّة الأصعب خاصَّة بالنسبة للسياسي أو المسؤول، أو لكل مَن يسعى للوصول إلى الحقيقة وإظهارها.. وفي نفس الوقت فإنَّ السيل الإعلامي ينهمر ويتدفَّق، بلا حدود، وظهر الذكاء الاصطناعي غير المنضبط، كما برزت ظواهر وأدوات تقلب الحق باطلًا، والعكس.. لقد رأينا رؤساء دول يتكلمون، وهم لا يتكلمون، وأشياء كثيرة وخطيرة من هذا القبيل، ومن ثم على الإعلامي أنْ يدرك خطورة الأمر.

* وما الذي قادكم فجأةً لهذا العالم؟!

– ربما لاحظ الدكتور محمد عبده يماني -يرحمه الله- شيئًا في شخصيَّتي. لقد كان أهم مسؤول يمكن أنْ ألتقيه وجهًا لوجه، وأنا استاذ جامعي، وزير التعليم. فجأةً وجدتُ نفسي استقبل اتِّصالًا هاتفيًّا من سمو ولي العهد، يتصل بنفسه، ولي الأمر لتوجيه مباشر. يتَّصل بي وزير الداخليَّة، وزير الخارجية. يتصل بي سمو ولي العهد.. عالم جديد وجدتُ نفسي فيه. كيف صار هذا الخبر؟ كيف يتم نشر خبر غير صحيح؟ عالم آخر من الديناميكيَّة والضوضاء والضجيج لم أكن أتوقَّعه. على أن الأمر لم ينته عند هذا الحد.. فبعد ثماني سنوات من العمل كوكيل لوزارة الاعلام للشئون الاعلامية، رجوت من القيادة الكريمة ان أعود مرة أخرى للجامعة، وتم تلبية رجائي وفرحت أيما فرح، حيث تنتظرني الأبحاث، والمدرَّجات، والأساتذة، والطلاب.. وكتبتُ كتابًا في الكيمياء العضويَّة، ولم أكد أفرح، حتَّى جاءني اتِّصال من نائب وزير الخارجيَّة في ذلك الوقت عبدالرحمن المنصوري يبلغني فيه، أنَّ جلالة الملك فهد «يبغاك أنْ تكون سفيرًا له في تركيا». أنا؟ قال: نعم. قلت: تحت أمر قيادتي وبلادي، ومضيت.

* وماذا فعلت؟!

– ذهبت إلى عالم مختلف تمامًا عن الجامعة بهدوئها، وعن الإعلام بضجيجه.. وجدتني ألتقي رؤساء دول، وأدخل في نقاشات عميقة. والحق أنَّه كان عالمًا جميلًا، وقد وفَّقني الله ونجحتُ فيه نجاحًا كبيرًا. لقد كانت فترة مليئة بالأحداث الكُبْرى، غزو العراق للكويت، والحرب بين العراق وإيران، والحمد لله أبليتُ بلاءً حسنًا، حتَّى أنَّ جلالة الملك فهد اختارني؛ لكي أكون أوَّل سفير سعودي في الاتحاد السوفيتي، وشاهدتُ التحوُّل الكبير هناك، وكيف تفكَّك الاتحاد، ثم أصبحتُ سفيرًا لجمهوريَّة روسيا الاتحاديَّة، وبعدها انتقلتُ من روسبا إلى المغرب، ثم من المغرب «7 سنوات» إلى لبنان، وشاهدتُ الأحداث الصعبة هناك في ذلك الوقت. وفي 2009 أكرمني الملك عبدالله، وعيَّنني وزيرًا للثقافة والإعلام.

* هل أفادتك فترة الإعلام في الحقبة الدلوماسيَّة؟

– نعم وكثير جدًّا، فأنا في الأصل أستاذ جامعي، ومن ثم جاء الإعلام ليفتح أمامي آفاقًا أرحب.. أنت كأكاديمي في الجامعة كل شيء يمضي هادئًا وواضحًا، بل ونقيًّا، واحد زائد واحدًا يساوي اثنين. وهناك مجلس قسم، ومجلس كلية جامعة، ومجلس علمي يقيم ويقرر، بلا مجاملات. الجامعات منابر علميَّة وواضحة ونقيَّة. وفجأةً وجدتُ نفسي وكيلًا لوزارة الإعلام. عالم جديد ومتغيِّر تمامًا. فالخبر الذي تراه اليوم، تجده مختلفًا تمامًا وبنفس الجرأة. لقد تغيَّر كل شيء، ودخلت عالمًا جديدًا.. صحافة، وصخب، وإعلام.

«كنتُ محظوظًا»

* بعد هذه الرحلة الطويلة، ما هي أبرز المنعطفات، أو المنحنيات التي مررت بها؟

– كل منعطف فيها كان جميلًا -بحمد الله-. لقد كان طموحي في الجامعة أنْ أحصل على الدكتوراة، وأنْ أكون أستاذًا جامعيًّا. لقد كنتُ إنسانًا محظوظًا في كل الفترات. وفي كل مرحلة كانت هناك منعطفات، بل ومنحنيات، لكنَّها أفادتني كثيرًا، وعلى سبيل المثال، في الفترة الدبلوماسيَّة، استفدتُ من تواصلي مع الحضارات والثقافات المختلفة، وكان تواصلي إيجابيًّا جدًّا، واستفدتُ كثيرًا من هذا التواصل، سواء كان هذا التواصل في تركيا، أو في روسيا، أو في المغرب، أو في لبنان. والشاعر في بلد ما، عندما يعرف أنَّك قرأت شعره يفرح كثيرًا، إنَّه التواصل البنَّاء مع الحضارات، ومع الأدب العالميِّ، فلكل بلد حضارته وتراثه في الأدب، وفي الفن، وفي الحياة عمومًا، وهذا الأمر، ساعدني على اكتساب أشياء كثيرة جدًّا.

هذه رحلتي التي قدَّمت فيها كل خبراتي، وبتوفيق من الله، لا سعيت فيها لمنصب، ولا أدَّعي أنَّه كان لي دور فيها، ولا أدَّعي، إنَّما كان كل شيء يتم بتوفيق الله، ثم ثقة ولاة الأمر، سواء وأنا أستاذ جامعي، أو وكيل للوزارة، أو سفير، أو وزير، أو سفير للمغرب، مرَّة أُخْرى في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله-.