من خنادق إدلب: تجارب الذين اكتشفوا العالم

من خنادق إدلب: تجارب الذين اكتشفوا العالم

يُفترض، في المنطق البسيط، أنَّ القُرب من مراكز العلم والمعرفة، وأنَّ الإقامة في عواصم الفكر والأرشيف والجامعات، يُفضي تلقائيًّا إلى قراءةٍ أعمقَ للعالم وتحوُّلاته، وإلى استباق التغيرات لا ملاحقتها. لكن ما حدث في سوريا، خلال الشهور الأخيرة، قلبَ هذه الفرضيَّة رأسًا على عقب، وأعاد صياغة معادلة الوعي المعاصر.

ففي إدلب، حيث الغبار والرصاص.. وفي الخنادق التي لا تفتح على شرفات باريس، ولا نوافذ واشنطن.. وُلدَ فهمٌ مختلف للعالم.

هناك، بين غارةٍ وغارةٍ، وبين اجتماعَين ميدانيَّين ومؤتمرَين مع زعماء عشائر وسفراء، كانت تتشكَّل مقاربةٌ سياسيَّةٌ مركَّبةٌ، استطاعت أنْ تُدير خيوط الداخل السوريِّ، وأنْ تُحدِّث الخارج بلغةٍ يفهمها: لغة المصالح، والأمن، والتحوُّل المحسوب.

لم يرفعوا شعارات كُبْرى.. لم يتحدَّثوا عن «ما بعد الحداثة».. ولا عن «إعادة تفكيك الدَّولة الوطنيَّة».. بل عملوا. بصمتٍ أوَّلًا، وببراعة لاحقًا.

اقتحمَ هؤلاء التعقيدات الجيوسياسيَّة في الإقليم.. واشتبكوا مع الإرادات الدوليَّة لا بالشعار، بل بالمقترح العمليِّ.. ثم صعدوا تدريجيًّا، حتى صارت صورهم في الصف الأوَّل من المنتديات العالميَّة، وصار قائدهم، قائد سوريا الجديدة، يجلس في الرياض، إلى جانب قادةٍ، لا يمكن إلَّا التسليم بأنَّهم الأكثر تأثيرًا، في المنطقة، وفي العالم.

المفارقة أنَّ هؤلاء القادة قرأوا الظاهرة بعمق، وأدركوا أبعادها ودلالاتها بقوَّةٍ ووضوح.

بينما كانت هناك، في الجهة المقابلة، نخبٌ سوريَّة، ممَّن لم تنقصهم الأدوات، ولا المصطلحات، ولا غرف الزوم، ولا ردهات المؤتمرات. لكنَّهم أصرُّوا أنْ يقيسوا الواقع بمسطرة تعود لما قبل 2011، ثم استغربوا لماذا لا يفهمهم العالم!.

أولئك الذين يُفترض أنَّهم «المثقَّفون المقيمون في الغرب».. لم يقرأوا لا التحوُّلَ داخل إدلب، ولا التحوُّل في نظرة العالم لإدلب، بل بقوا يراجعون هوامش دفاترهم القديمة، يتساءلون:

هل من الممكن، أنْ يكون هؤلاء المقاتلون قد فهموا النظام العالمي أكثر منا؟».

نترك الجواب للوقائع والتاريخ.. ونقول: لم يكن في ذلك سحر، وإنما فهم لحركة المصالح الدولية كما هي، لا كما تُدرَّس في حلقات التنوير.. وفوق ذلك، إرادة لاستثمار كل ممكن من أدوات الواقع، ولتحويل الجغرافيا الملعونة إلى منبر للشرعية، ولإعادة تعريف مركز سوريا السياسي انطلاقا من هامشها المكاني.

وهكذا، حين وصلوا إلى اللَّحظة التي رُفعت فيها العقوبات الدوليَّة عن سوريا، لم يكونوا يحتفلُون بانتصارهم الشخصيِّ، بل بانتصار المنهج الذي تبنُّوه، والذي قال، صراحةً، إنَّ التعامل مع العالم لا يكون، فقط، عبر التوق إلى الرِّضا الأخلاقيِّ، وهو أمرٌ لازمٌ وغير كافٍ، بل عبر فهمِ المعادلة، ثم اقتحامها بشجاعة واقعيَّة.

ذلك ما فعلته إدلب. في الوقت الذي كان فيه كثيرٌ من سكَّان العواصم النبيلة يُعيدون نشر مقالات نقديَّة، لا علاقة لها بسوريا… إلَّا إذا صادف أنَّ المقطع الثالث منها ذكر كلمة «الشرق الأوسط».

لم يدرك هؤلاء، أوَّلًا وأخيرًا، الفارق الكبير بينهم وبين أولئك الثوَّار المعفَّرين بالغبار من إدلب: أنَّ الشارع السوريَّ، بمفرداته المتعبة والمباشرة، لا ينتظر المصادقة الفكريَّة. وأنَّه يتنفَّس، ويعمل، ويفتح محلَّاته، ويرسل أبناءه للمدارس، ويفرح، بلا ترخيصٍ ثقافيٍّ مُسبق.

أمَّا النخبةُ تلك، فلا تزال تكتب منشورات نقديَّة… عن «أزمة الوعي الجماهيريِّ في حقبة ما بعد الحداثة»!.