المعلم: ركيزة بناء الأمة العظيمة

المعلم: ركيزة بناء الأمة العظيمة

المعلِّم هو صاحب الفضل الأوَّل في إقامة الحضارات الحديثة، وفي استئصال جذر الجهالة، إنَّ الأُمَّة العظيمة يبنيها المعلِّم في قاعة الدراسة، هو مَن يصنع الطبيب، والعالم، والمهندس، والبنَّاء، والفنَّان وغيرها من المهن، وصدق الأديب المصري الحائز على جائزة نوبل في الأدب «نجيب محفوظ» حين قال: «يمتلك المعلِّم أعظم مهنة، إذْ يتخرَّج على يديه جميع المهن الأخرى».

إنَّه أمل كل وطن في الارتقاء والتطوُّر، دعونا نتخيَّل إلى أيِّ درجة كانت سنغافورة في فترة الستينيَّات من القرن الميلاديِّ الماضي، كانت تعيش حياةً قاسيةً جدًّا: فقرًا، ومرضًا، وفسادًا، وجريمةً.

يقول «لي كوان» -أوَّل رئيس وزراء، وباني نهضة سنغافورة الحديثة- عندما سُئل عن سرِّ التطوُّر التكنولوجيِّ الهائل في بلاده، أجاب قائلًا: (نظرتُ إلى المعلِّمين، كانوا في بؤس وازدراء، ومنحتهم راتب وزير، وحصانة دبلوماسي، وإجلال إمبراطور، وقلت لهم: أنا أبني لكم أجهزة الدولة، وأنتم تبنون لي الإنسان السنغافوري، فأصبحنا في مقدِّمة الدول في شتَّى المجالات، ومن أقوى اقتصادات العالم).

المستشارة الألمانية -السابقة- أنجيلا ميركل ردًّا على القضاة والأطباء الذين طالبوها بمساواتهم مع رواتب المعلِّمين، قالت لهم: «كيف أساويكم بمَن علَّموكم»؟.

إنَّ المعلِّمين هم مصانع أنتجت مَن ساهموا في تقدُّم البشريَّة خطوات إلى الأمام من العلماء والمفكِّرين والمبتكرين؛ فقبلَ قُرابةِ ستينَ عامًا كان هناك طالب بريطاني لم يكنْ يميِّزه عن أقرانه شيء، كان مستواه متوسطًا، وكان أساتذته لا يرون منه إلَّا جانبه الشقيَّ، وحدَهُ أستاذ الرياضيَّات التركي ذكران طه، هو الذي لاحظ أنَّ وراء هذا الوجه المشاغبِ عقلًا رياضيًّا فذًّا، فصرف همَّتَه لتطويره وترقيته وتحفيزه.

كانت نتيجة هذه الفراسةِ، أنْ التحق الطالبُ الذي ظنَّه أساتذته متوسط المستوى بجامعة أكسفورد، وحصل منها على درجة الشرف الأولى في الفيزياء، ثم أكمل دراسته في جامعة كامبردج حتَّى حصل على الدكتوراة في علم الكون.

لم تتوقَّف المسيرة، وظلَّ هذا الرجل يُتحف الساحة الفيزيائيَّة والرياضيَّة والفلسفيَّة بإبداعاته التي كان على رأسها كتابه الشهير: (تاريخ موجز للزَّمن)، بِيع من هذا الكتاب أكثر من 10 ملايين نسخة! وعدَّه بعضهم ثاني أكثر كتاب قراءةً في أوروبا بعد الإنجيل.

والأغرب أن هذا الرجل أُصيب في مطلع العقد الثالث من عمره بمرض التصلب الضموري الجانبي؛ مما أفقده الكلام والحركة، فأصبح بلا صوت. ولم يعد يتحرك منه سوى عضلة عينيه. وتوقع له الأطباء ألا يعيش أكثر من ثلاث سنين، ولكنه مازال حيا إلى اليوم بعد مرور أكثر من خمسين سنة على توقع الأطباء.

إنَّه (ستيفن هوكينج)، أشهر علماءِ الفيزياء اليوم، وأحدُ أعظم عباقرةِ العالمِ، وشاغلُ (الكرسيِّ اللوكاسيِّ) للرياضيَّاتِ الذي شغله من قبل العالمُ العظيمُ: إسحاق نيوتن.

الشاهدُ في هذه القصة، هو (الأثر) الكبير الذي تركه المعلِّم التركيُّ في تلميذه، وتلك الفراسة التي جعلتْه ينتشلُ هذه الموهبة الفذَّة ويضعها في الطريق الصحيح.

إنَّ المعلِّمين الحقيقيِّين يمتازون بهذه القدرة على اقتناص المواهب، ومن ثمَّ وضعها في مسارها الصحيح، الذي يلائم عناصر قوَّتها وتميُّزها.