عندما نمنح الآلة القدرة على البرمجة، يجب أن نفكر مجددًا في من يحق له أن يُعتبر إنسانًا.

في مؤتمر علمي رصين عن اللوجستيات والتشخيص الطبي، نظمته الجمعية السعودية للطب المخبري باستضافة كريمة في رحاب مركز المؤتمرات بجامعة جدة – حي الفيصلية، كنت أظن أنني أملك مفتاحًا استثنائيًا لمشكلة ملحّة. محاضرتي، التي حملت عنوان Cold Chain Logistics & Blockchain to Drive Quality، كانت ثمرة تحضير دقيق، جمعت فيها بين تعقيد سلاسل التبريد، وابتكارية أدوات البلوكتشين، وتصورات مستقبلية لتحسين جودة النظام الصحي. دخلت القاعة واثقًا، أعد لساني لعرض الحلول، ظنًّا مني أنني أسبق الزمن بخطوة.
لكن من سبقوني في المنصة من الأطباء والمتخصصين، كانوا يتحدثون بلغة الذكاء الاصطناعي كما لو كانت امتدادًا لأدواتهم السريرية. لا نظريات، بل تطبيقات حقيقية. لا تنبؤات، بل تجارب ميدانية متقدمة.
تحدثوا عن نماذج دعم القرار السريري، وأنظمة تحليل صور الأشعة، وتتبع الأدوية عبر تقنيات تعلم الآلة. وجدتني فجأة لا أقدّم طرحًا مختلفًا، بل عرضًا باهتًا مقارنةً بمن دمج التقنية في نبض يومه المهني. ولساني، الذي جُهّز للإقناع، تعثر لا خجلاً، بل احترامًا لوعي لم أستشرفه من قبل.
تلك اللحظة لم تكن خيبة، بل استيقاظة. أدركت أن تخصص الحاسب الآلي، كما يُدرّس ويُتناول، أصبح متأخّرًا عن واقعٍ سبقه. ففي زمنٍ تكتب فيه الآلة الأكواد، وتبني النماذج، وتختبر الخوارزميات بنفسها، يصبح السؤال الأكثر إحراجًا: من نكون نحن أمامها؟ وما الذي يُبقي لنا جدوى إذا أصبحت هي أذكى، وأسرع، وأقل خطأً؟
في مارس 2025، نشرت واشنطن بوست تقريرًا يؤكد تراجع وظائف البرمجة في الولايات المتحدة بنسبة 27.5%، بسبب الانتشار الواسع لأدوات مثل GitHub Copilot وChatGPT التي باتت تُنجز المهام البرمجية بكفاءة تتفوق على المبرمجين الجدد. ومع هذا التحول، لا تصبح الأزمة في تراجع التوظيف فحسب، بل في تراجع الحاجة نفسها إلى التخصص، إن لم يُعاد تشكيله.
فالتقنية، التي كانت حكرًا، أصبحت أداة. والبرمجة، التي كانت فنًا، أصبحت مهارة شائعة تمارسها الخوارزميات قبل أن تُدرَّس في الجامعات. ومع هذا التحول، لا يزال خريجو التخصصات غير التقنية يُقصَون من مشهد الابتكار، ويُصنّفون -بمرارة- في قوائم البطالة، بدلًا من أن يُستثمر وعيهم في صناعة المعنى داخل الآلة.
ولعلّ ما يجب أن يكون، لا ما هو كائن، هو أن يُدعى خريج الأدب ليعلم الآلة كيف تفهم السياق الإنساني، وخريج الجغرافيا ليبني خوارزميات تتبع الكوارث، وخريج التربية البدنية ليصمم أدوات لتحسين الأداء الرياضي، وخريج الدراسات الإسلامية ليضبط الحدود الشرعية في التطبيقات الذكية، وخريج علم النفس ليكشف تحيز الخوارزميات وسلوكياتها اللاواعية. أما القانوني، فمكانه الطبيعي لم يعد فقط تنظيم العلاقات البشرية، بل وضع حدود مسؤولية الآلات نفسها.
المعادلة لم تعد في من يكتب الكود، بل في من يضع الضمير داخله. نحن لا نحتاج مزيدًا من المبرمجين، بل نحتاج من يُعلّم الآلة أن تفهم الصمت، وتدرك التبعات، وتحسن التصرف حين تتعطل الأوامر.
وهنا تنبع الحاجة إلى ما أسميه مهنة الأخلاق: تخصص جديد، لا يعرف الفصل بين التقنية والضمير. يجمع بين الفقه والفلسفة والقانون وعلم النفس وعلوم البيانات. مهمته ليست تسريع الخوارزميات، بل تبطيء اندفاعها حين تتعارض مع العدالة. لا يكتب الكود، بل يسائل الكود: لماذا؟ ولأجل من؟ وعلى أي قيمة يرتكز؟
وفي خضم هذا التوجه العالمي نحو الذكاء الاصطناعي، لم تكتفِ المملكة العربية السعودية بالاستهلاك، بل خطّت موقعًا رياديًا في صياغة الأخلاق الرقمية. فأنشأت في الرياض المركز الدولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وتُوّجت جهودها بإطلاق الإطار الوطني للأخلاقيات خلال منتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات في جنيف، حيث حصدت مبادراتها -ومنها مشروع “سدايا”- تقديرًا دوليًا.
إنها رسالة صامتة ولكن حاسمة: أن القيم قد تُكتب بلغاتٍ لا تأتي من وادي السيليكون وحده، بل أيضًا من الرياض.
هذه الرؤية تتسق مع دعوة لطالما آمنت بها: إعادة هيكلة تعليم الحاسب. لا نريد مناهج تُلقن كيفية كتابة الأكواد، بل مناهج تُدرّس فلسفة الأكواد، وآثارها، وحدودها.
ينبغي أن تُصبح البرمجة مهارة عامة في المرحلة الجامعية، تُدرّس للجميع، تمامًا كالرياضيات واللغة الإنجليزية.
أما تخصص علوم الحاسب، فيجب أن يُحصر في الدراسات العليا، ويُشترط فيه خلفية علمية أو معرفية متقدمة، ويُركز على الفلسفة التقنية، حوكمة الذكاء، تحليل الأنظمة الذكية، وعدالة الخوارزميات.
عندها فقط، نستطيع أن نُخرج جيلًا لا يُنافس الآلة في سرعتها، بل يُفكك قراراتها، ويضبط أثرها، ويُعيد تعريف علاقتها بالإنسان.
ما حدث لي في المؤتمر لم يكن عثرة في الأداء، بل دعوة لمراجعة المفهوم.
إذ ليس نجاح المتحدث فيما يقوله، بل فيما يدركه حين لا يُقال.
الذكاء الاصطناعي لم يُلغِ البشر، لكنه اختبرهم – اختبر وعيهم، صدقهم، وجرأتهم في الاعتراف بأن الآلة تجاوزت حدود الفهم، وآن الأوان لإعادة ترسيم الأدوار.
وهنا، لا بد من وقفة صادقة. لقد وصلنا إلى عتبة تاريخية تتطلب مناقشة جادة، شاملة، ومنظمة لإعادة صياغة مستقبل تخصصات الحاسب الآلي، قبل أن يتهاوى ما تبقى من مبرراتها الأكاديمية والمهنية، في ظل هذا التسارع الرهيب لأنظمة الذكاء الاصطناعي وتغلغلها في كل القطاعات دون استئذان. لقد بدأت علامات الانهيار تظهر: خريجون بلا وظائف، جامعات تُعيد تدوير نفس المساقات، وسوق عمل لم يعد ينتظر من يكتب الكود، بل من يفهم أثره، ويضبط سلوكه، ويعيد صياغة غايته.
لكن هذا لا يكفي ما لم نُعد تشكيل تعليمنا… من الجذور.
الحل ليس في البكاء على الأطلال، بل في إعادة تشكيل المنظومة:
– نمنح البرمجة للجميع، كمهارة بديهية، لا كهوية مهنية.
– نحصر “علوم الحاسب” في الدراسات العليا، ويُشترط فيها خلفية علمية أو تطبيقية متقدمة.
– نُحوّل خريجي الحاسب إلى مستشاري علوم داخل تخصصات أخرى: شريكًا للطبيب، للمهندس، للمدير التنفيذي.
– نُدمج خريجي التخصصات الإنسانية في المنظومة التقنية، لنمنح الآلة لسانًا عربيًا، وفكرًا فلسفيًا، وقيمًا راسخة.
– نُعمّق التركيز على أخلاقيات الخوارزميات، حوكمة الذكاء الاصطناعي، تصميم النماذج التنبؤية، وتحليل الأنظمة الذكية.
– نُؤسس لمنهج يُخرج مفكرًا في التقنية، لا مجرد مبرمج لها.
وإن أردنا أمثلة، فلا نذهب بعيدًا. أكسفورد وستانفورد لا تُخرّجان المبرمج، بل الفيلسوف الذي يُنظّر للبرمجة، والمُخترع الذي يُشكّلها ضمن سياق اجتماعي ومعرفي واقتصادي.
ولذلك، فإن السؤال لم يعد: “من سيبرمج؟” بل: “من يحق له أن يبرمج؟”
ومن هنا، أعود إلى حيث بدأت:
حين نمنح الآلة حق البرمجة، علينا أن نعيد التفكير في من يحق له أن يكون إنسانًا.