جدّة.. من زاوية غير مألوفة!

حين تعطَّل جهازي، قادتني الصدفة إلى سوق الجوَّالات بشارع فلسطين في جدَّة، جولة قصيرة في ظاهرها، لكنَّها كشفت لي مشهدًا يصعب أنْ يُروى دون أنْ يبدو مبالغًا.
منذ دخولي، خيَّم شعور غريب، المحلات متلاصقة، أجهزة مبعثرة، وضجيج لا يشبه صوت التقنية بقدر ما يشبه سوقًا لبيع المستعمل في أحد أزقَّة العالم القديم.
سألت عن الصيانة، فدلُّوني على رجل تقادم به الزمن كما تقادمت أدواته، يجلس خلف طاولة تئنُّ من ثقل الأجهزة. عيونه لم تكن حاضرة تمامًا، كأنَّ كلَّ شيء حوله مضى، وبقي هو دون ساعة.
وأنا جالس، دخل رجل في الخمسينيَّات، بملابس لا تنتسب لأيِّ ذوق معروف، ونظراته مشوَّشة كمن يبحث عن سيناريو لم يُكتب بعد..! حمل في يده جوَّالًا وسأل البائع إنْ كان يشتريه.
قبل أنْ ينال ردًّا، ظهرت سيِّدة فجأةً، تزعم أنَّ الجهاز جاءها «هدية»، في مشهد تحالفت فيه العشوائيَّة مع الغموض، وانتهى كما بدأ، بلا ملامح.
ثم جاء مَن بدا عليه الاضطراب العقلي، يسأل عن «الدخان»، ومضى كما أتى، دون أنْ يثير استغراب أحد.
ناداني الفنِّي، وقال: «تعالَ نبحث عن القطعة»، وسرت خلفه إلى متاهات خلف السوق، بين ممرَّات ضيِّقة وألسنة ولهجات من كلِّ مكان. المكان يشبه البرازيل، أو المكسيك في سوق شعبيٍّ تعلَّق في فيلم قديم.
أنا على يقين أنَّ هناك جهودًا تُبذل، ونظامًا قائمًا يُحاول أنْ يضبط المشهد، لكن ما رأيته يجعلني أقول: هذه ليست جدَّة فقط، بل صورة تتكرَّر -بتفاصيل مختلفة- في مدن كثيرة.
لم تكن مجرَّد صيانة جوَّال، بل كانت رحلة قصيرة إلى وجه آخر من المدينة، وجه يبتسم لك بأسنانه المكسورة، ويصافحك بكفٍّ مبلَّلة بعرق العابرين. كل شيء فيه يبدو مألوفًا… لكنَّه لا يشبه شيئًا ممَّا يجب أنْ يكون.
تخرج منه محمَّلًا بجهازك، وبشيءٍ من الحيرة.