مراقبة راعٍ لثورة عام 654هـ من حدود المدينة

تخيَّل أنَّك تعيش في زمن لم يُدوَّن فيه علم البراكين، ولم تُخترع فيه أجهزة الرصد. لا أحد يشرح لك ماذا يعني أنْ تهتز الأرض تحت قدميك، أو يضيء الأفق بلون أحمر كالدَّم.. ما كنت لتفهم، بل لتخاف.
هذه القصة خياليَّة في سردها، لكنَّها تنبض بالحقائق. كتبتُها كعالم براكين، محاولًا أنْ أرتدي عباءة رجلٍ بسيط، عاش على أطراف حرَّة واقم، في ليلة من ليالي عام 654 هجريًّا (1256 ميلاديًّا)، حينما انشقت الأرض، واندلعت منها نار أضاءت التاريخ.
كان الراعي يبيت ليله بين صخور سوداء صامتة، خلفها زمن قديم لا يتحدَّث. يرعى أغنامه على أطراف الحرَّة، حيث الحياة ساكنة كأنَّها لا تنوي أنْ تتحرَّك. حتى جاء ذلك اليوم..
بدأت الأرض ترتجف برفق، لا تكاد تُرى، ولكن تُحس. الماشية اضطربت، والهواء نفسه بدا وكأنَّه يحمل همسًا غريبًا من باطن الأرض. في علم اليوم، نسمِّي هذا النوع من الزلازل: زلازل إنذاريَّة، تسبق الثورانات البركانيَّة عادةً.. لكن في ذلك الزمن، لم يكن أحد يعرف ما تعنيه تلك الهزَّات.
حلَّ الليل، لكنَّه لم يكن مثل كل الليالي. إذ عند منتصفه، انفجر الأفق الشرقي بضوءٍ أحمرَ كأنَّ شمسًا قد بزغت في غير أوانها. ارتجف الرَّاعي، وركض إلى مرتفع قريب، لا بدافع الفضول فقط، بل بحثًا عن الأمان. وهناك، من أعلى، رأى ما لم يتخيَّله حتى في كوابيسه.
نهر من النار يتلوَّى ببطء، يذيب الصخور، ويزحف بثقة لا تعرف الرَّحمة. وفي الأفق، تل أسود جديد ينفث الرماد، لم يكن موجودًا في الأمس القريب.
اليوم نعلم أن ذلك المشهد كان نتيجة ثوران شقي، نوع من البراكين التي تنفجر عبر شقوق في الأرض، فتقذف حمماً بازلتية كالأنهار، وتشكل فوهات جديدة. أما «هدير الأرض» الذي دونه المؤرخون، فكان على الأرجح أصوات تصدع الصخور تحت ضغط الصهارة الصاعدة.
رغم الخوف، اقترب الرَّاعي. كانت الحمم تقذف قنابل بركانيَّة في السماء، تتطاير وتعود إلى الأرض كأنَّها شظايا من كوكب آخر. حرارة لا تُحتمل، ودخان يخنق الأنفاس.. أدرك أخيرًا أنَّه يواجه شيئًا أكبر من فهمه، فركض، والنار خلفه تزأر كما لو أنَّها كائن حي يطارده.
عندما عاد إلى المدينة، وجدها في حال من الهلع. النَّاس يبكون، يهربون، يتضرَّعون. المؤرِّخون كتبوا أنَّ المدينة ارتجَّت لأيام، حتَّى ظن الناس أنَّ القيامة قد قامت.. لكنَّهم تذكَّروا حديث النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: «لَا تقومُ السَّاعةُ حتَّى تخرجَ نارٌ مِن أرضِ الحجازِ تضيءُ أعناقَ الإبلِ ببُصرَى»، وهنا، تحوَّل الخوف إلى رهبة، والرُّعب إلى تصديق.
بعد أيام، خمدت النَّار، وهدأت الأرض. عاد الرَّاعي إلى مكانه القديم، ليجد أرضًا سوداء محروقة، بلا عشب ولا حياة. لكنَّه لم يكن وحيدًا هذه المرَّة. اثنان من فرسان المدينة أرسلهما الوالي، كانا يحاولان الاقتراب من موقع الحمم. بدا المشهد أمامهم وكأنَّه بقايا من نهاية العالم.
رغم أنَّ القصة متخيَّلة، فإنَّ كلَّ مشهد فيها له أصل علمي. ثوران عام 654هـ لم يكن مجرَّد حدثٍ عابر، بل علامة محفورة في جيولوجيا وتاريخ المدينة، ولحظة فريدة مزجت بين الغموض والعلم، بين الإيمان والذهول.. ففي تلك الليلة، وُلدت سبع فوَّهات جديدة في الحرَّة، أُضيفت إلى مئات البراكين التي لا تزال تشهد على أنَّ هذه الأرض تتنفَّس من أعماقها.