أسامة السباعي وتعلقه بالقرآن الكريم!

أسامة السباعي وتعلقه بالقرآن الكريم!

فاتحة:

يومٌ غير عادي هذا اليوم السبت 19/11/1446هـ صحوت متأخراً عن صلاة الفجر جماعة في المسجد فأصبحت ذا نفسية نكدة/ غير مرتاحة!!

واصلت اليوم بعد الصلاة الانفرادية فكانت الأحلام المزعجة.. وصحوت على شاغل شعري ينبهني أن قد بلغت السبعين من العمر، فأخذت القلم والورقة أحسب حياتي من ميلادي وحتى هذا العام فوجدته بالهجري 71 سنة وبالميلادي 69 سنة فإذا الفرق لا يذكر!!

المهم أن السبعين أوحت لي بقصيدة قلت فيها:

سبعون مرَّت في عَجَل

لم أدر فيها ما حصل

بالأمس كنت يافعاً

واليوم شيخ في عِـلَل

مرَّت حياتي صاعداً

نحو الأعالي لم أصل

وسموت في أبراجها

نحو الكمال.. وما اكتمل

ياليتني كنت السسُّها

ياليتني كنتُ زُحَل

ثم نزلت للإفطار، فإذا في الجو غيم، ولازلت مسكوناً بالعمر السبعيني فكتبت بيتاً شعرياً:

أحسست بالسبعين تقتل بهجتي

وتضيف أعباءً على أعبائي

فكتبتها وحفظتها في مسودات الجوال.. ولما رحت للجوال الذكي قرأت رسالة الجار (جمال حفني) أن الدكتور أسامة السباعي توفي صباح اليوم… فعرفت لماذا أصابتني نكادة هذا اليوم وبؤسه والتياعه!!

إن النفوس وحالاتها وما يعتريها، مؤشرات لما يحيط بها ويعنو لها بظهر الغيب فاللَّهم لا حول ولا قوة إلا بك.

هذا (أسامة السباعي) الجار والصديق، ورفيق المسجد والصلوات، وصاحب (المصحف المفسر) الذي لم يغادر مسجدنا حتى اليوم ولازال ينتظر صاحبه (يرحمه الله).

*****

عرفت (أسامة السباعي) باكراً، منذ كان رئيساً لتحرير جريدة المدينة المنورة ثم مجلة إقرأ، وعرفته كاتباً صحافياً مرموقاًـ ومشاركاً في الفعاليات الثقافية عبر الصوالين والمنتديات والملتقيات الثقافية. ولكن الذي يأسرني فيه ذلك الصَّمت الجميل، والاستيعاب الأجمل لكل معطيات الحوار والنقاش، وقد ذكرني ذلك بمقالات لزميلنا الدكتور علي العُمَرِي عن ثقافة الصمت!!

إن (ثقافة الصمت) معطىً حضارياً لا يملكه كثير من المثقفين أو مدعي الثقافة، فكونك صامت في جو صاخب، يعني امتلاك القدرة على التأمل والاستيعاب الذاتي، والتقولب المعرفي والإدراكي!!

وكونك صامت في جو ثقافي ترتفع فيه الأصوات، وتعلو المداخلات، وكل يشخصن المسألة الثقافية المتحاور حولها، فأنت تنأى بذكاء، وتبتعد بديناميكية ثقافية صامتة.. هذا يعني أن للمسألة الثقافية وجوهاً كثيرة يمكن التثاقف معها وحولها بكل أريحية ومعرفية، بعيداً عن الصخب والشد الذي يعني امتلاك الحقيقة دون الآخرين.

(أسامة السباعي) من أولئك الذين يمارسون (ثقافة الصمت) عن معرفة وتعالٍ وتفهم، وإن طُلِبَ منه الحديث أمتع وأسكت وبرهن وعلل وأفاد، بخبرة ومعرفة وحسن قول وأسلوب (يرحمه الله).

جمعني به (المسجد) مسجد النقاء، في حينا (حي النعيم) فكنت قريباً من محرابه ومصلاه.. ومصحفه الذي حدثني عنه طويلاً.

هذا (المصحف المفَسَّر) يحمل معلومات ببليوغرافية هامة، فالمؤلف محمد فريد وجدي، والطبعة الثامنة، وهو تفسير لغوي ومعنوي ونشرته مكتبة القاهرة (بدون تاريخ)!!

قال لي الأستاذ (أسامة السباعي) ذات حوار مسجدي: إنه اقتنى هذا المصحف منذ سنواته الجامعية الأولى في الرياض، من مكتبة السلام بحي البطحاء كما هو مختوم بختم المكتبة!! وأنه اصطفى هذا (المصحف المفَسَّر) لتدبر آياته، ومعانيه ودلالات ألفاظه وآياته وأنه حريص على هذا المصحف ففيه سجَّلَ تدبراته، وفيه خطَّ ملاحظاته، وفيه دوَّن أفكاره وتأملاته، وفيه حدد مواطن وقفاته وقراءاته!!

ومن إعجابي بالمصحف/ صورت بعض الصفحات التي تثبت مدى احتفاء أستاذنا العزيز (يرحمه الله) بكتاب الله، ومدى حرصه على التدبر والإتقان فعلى صفحة العنوان الداخلية وجدته مدوِّناً اسمه مرتين بخط رقعي جميل (أسامة السباعي) مرة بالزخرفة واللون الأحمر، ومرة دون زخرفة بالقلم الأسود!!

وفي الصفحة المقابلة سجل – ذات قراءة – أرقام الآيات التي وصل إليها في تدبراته وقراءاته وتلاوته، وفي صفحة أخرى صوَّرْتُ قلمه (المرسام) الذي يكتب به ملاحظاته وتدبراته وكان مع الصفحتين 274ـ 275 من الجزء الحادي عشر، سورة يونس!!

رحم الله الأستاذ (أسامة السباعي) فقد كان تالياً للقرآن، متدبراً للآيات والمعاني والسور، وحريصاً على التأمل والتجويد!!

قابلته في رمضان المبارك هذا العام 1446هـ وكان يتحامل على مرضه، ولكن لحرصه على المسجد وجماعة الصلاة كان يحضر، ولعله وصل في آخر تدبر في هذا (المصحف المفَسَّر) عند سورة المعارج، حيث وضع فاصل القراءة عندها، وهي من الجز التاسع والعشرين وعلى الصفحتين 764-765.

ومما أعجبني في أستاذنا (المرحوم إن شاء الله) أسامة السباعي حرصه على (التجويد) وهو علم مرتبط بالقرآن الكريم، فوجدت وريقات يلخص فيها -بخطه الرقعي الجميل- كل معاني التجويد من معلومات وأحكام وعنونها بـ(القواعد الرئيسية لتجويد القرآن). وهي تصلح أن تنشر لتكون مدوَّنة تجويدية/ قرآتية لطلاب التحفيظ ودارسي علم التجويد!!

رحم الله الفقيد الذي كان القرآن نبراسه ومبتغاه، ورفيقه في مسجد النقاء حتى توفاه الله، ولازال في المسجد يذكرني بمآثره وتقواه!

*****

سبحان الله، فالقلوب شواهد.. كنا في مسجد النقاء ومع بعض الجيران نتحدث -قبل أيام من وفاته- عن زيارته والاطمئنان عليه منذ افتقدناه في المسجد وعلمنا أنه مريض ويراجع المشفى وصحته عليلة.

ورغم حرصنا وتخطيطنا للزيارة، إلا أن القدر كان سباقاً إليه، فأخذ الله أمانته في غفلة منا للأسف الشديد.

تعلمنا من هذا التسويف والتأجيل:

– أن لا نتأخر ولا نتردد.

– أن نتبع القول العمل.

– أن لا نؤجل عمل اليوم إلى الغد!!

فهناك كثير من الجيران أقعدهم المرض عن الصلاة في المسجد، وكل يوم نخطط لزيارة أحدهم ولم نفعل/ وأخشى ما أخشاه أن نندم حين نسمع أن فلاناً توفاه الله ونحن لم نقم بزيارته والاطمنان عليه؟!

مات الأستاذ (أسامة السباعي) مساء يوم الجمعة ليلة السبت، وحضر بعض الجيران غسله في مسجد الثنيان بجدة، والصلاة عليه فجر السبت 19/11/1446هـ في الحرم الشريف ودفنه في مقابر المعلاة (يرحمه الله)، ولم أعلم بذلك إلا ظهيرة السبت للأسف الشديد.

كان -ومايزال في ذاكرتي- ذلك العالم المتواضع.. يعلن لك ضعف بضاعته وكسادها، ولكنه الممتلئ علماً وتواضعاً ومعرفة، يذكرني ذلك بالبيت الشهير للمتنبي:

ملأى السنابل تنحني بتواضع

والفارغات رؤوسهن شوامخ

الأستاذ (أسامة) حمل من والده الرائد: أحمد السباعي (شيخ الصحفيين) روح الأدب والفكر والثقافة والصحافة، وترجمها فعلياً تخصصاً وممارسة. فقد كان عَلَماً من الأعلام، ومبرزاً في الصحافة المقروءة والإعلام المرئي، وقائداً إدارياً لفترات طويلة في صحيفة المدينة المنورة، ومجلة اقرأ، وله تلاميذ ومحبون ومريدون، تتلمذوا عليه واستفادوا من جهوده وعطاءاته.

أما أنا فقد جاورته في الحي والمسجد، وصادقته في دروب الثقافة والصحافة، وخبرته في ميادين الفكر والكتابة.. وعلى ذلك أشهد أنه من أهل المسجد المشهود لهم بالصلاح والتقى، يُعلِّم الراغبين تلاوة القرآن وتحسين التلاوة، يجيء إلى المسجد مبكراً ويتعاطى كتاب الله تلاوة وتدبراً من (مصحفه المفسَّر)، يلتفت إليَّ فيطرح مسألة معرفية دينية أو أدبية أو لغوية لنتحاور فيها ونصل إلى نتيجة، وإذا عجزنا قال لي: (دونك العم جوجل (Gogle) فاستشره وائتني بالعلم (المفيد).. وليس (الأكيد))!!

حدثني عن مسرح والده في مكة الذي أُغْلِقَ قبل أن يفتتح، في حادثة ثقافية شهدتها بلادنا تُذْكَر ولا تنسى!! وحدثني عن جهوده مع إخوانه وأسرته لإنشاء جائزة ثقافية باسم والدهم شيخ الصحافة أحمد السباعي بعد أن وعد بها وزير الإعلام الأسبق إياد مدني!! وحدثني عن مشاريع كتابية وسيرته الصحفية التي يشتغل عليها بعنوان: مسيرتي في رحاب الصحافة، وجاء المرض ثم الموت قبل أن ينهيها (يرحمه الله)!!

*****

و(أسامة السباعي) – بالنسبة لي – أكثر من جار وصديق. هو أخ وأستاذ، مشير ومستشار، ناصحٌ وخبير.. يبثك النُّصح والمشورة، ويعرب عن استجماله لما تكتب وتنشر.. أهديته بعض كتبي التاريخية والتربوية، ودراساتي النقدية، ودواويني الشعرية، وكان يحفزني على المزيد، ويشكر ليَ الصنيع، ويتساءل عن الجديد.

استكتبته – ذات يوم – للمشاركة في كتابي الثقافي/ النقدي بشهادة ثقافية عن (المثقف المستنير/ محمد سعيد طيب/ أبي الشيماء) الذي سيصدر قريباً – إن شاء الله – واعتذر – في البداية – لظروفه الصحية، ولما ألححت عليه سألني عن المشاركين فأخبرته عنهم. فكأنه ارتاح للمشاركة وطالبني بالتمهل وعدم الاستعجال عليه، فهو أحد رواد (الثلوثية) وأحد أصدقاء (أبي الشيماء/ محمد سعيد طيب)، والكتابة عن هذه الشخصية تحتاج وقتاً وأناة وجهداً للذاكرة والقلم.. وما هي إلا أيام حتى ينهي المقال/ الدراسة، ويسلمني إياه معتذراً عن أي تقصير.

قرأت المقال فإذا بي أمام فكر رشيد، ورأي سديد، ومعلومات جمَّة، وأسلوبٍ ثري أدبي رقيق، حيث اختار إحدى الجوانب الثقافية في شخصية المُتحَدَّث عنه (أبي الشيماء)ـ وهي صالون الثلوثية وفعالياته الثقافية. ومما جاء فيها قوله: ” وما أدراك وأنت تنصت أو تصغي إلى كل تلك المداولات الحوارية، أن تضطرب جوانحك فلا تلبث أن تشارك في الحوار فتضيف من مخزون علمك وتجاربك وحصاد ثقافتك ما يثري الحوار، ويشعل أجواء المجلس ثقافة ومعرفة وانسجاماً “.

شكرتً له المشاركة، وواحتفيت بها، وأنزلتها منزلاً يليق بها في الكتاب المذكور أعلاه.

رحم الله الرجل التقيَّ، الأصيل الكريم، المثقف الأديب، والعَلَم الإعلامي.. فقد أفضى إلى ملكوت رب رحيم غفور حليم رب العرش العظيم. و”إنا لله وإنا إليه راجعون” ولا حول ولا قوة إلا بالله. وخالص العزاء والمواساة لأسرته الكريمة: زوجته وأم أولاده الدكتورة هنية محمود السباعي، والأبناء المهندس ياسر والدكتورة ميساء، والدكتورة ميسون والمهندس أحمد. وكذلك لإخوانه وآل بيته وأولهم أستاذنا الدكتور زهير حفظه الله.

*****

وختاماً فإن كان الموت قد زارنا هذه الزيارة الأليمة واصطفى جارنا وحبيبنا الأستاذ أسامة السباعي، فقد مر من هنا – في حي النعيم – مرات سابقة، فاختار المدرب القدير – والجار العزيز الدكتور سليمان العلي الذي توفي يوم الأربعاء 23 إبريل 2025م = 25 شوال 1446هـ، وقبله توفي الجار العزيز إبراهيم خنكار، والعم الشريف حامد الهجاري، والعميد متقاعد سند بن فهد آل فرهود (أبو عبدالله)، وقبل كل أولئك الأستاذ إبراهيم العرقوبي، والأستاذ فهد باشا، وعبدالله بابقي وأحمد بابقي، والعم محسن العطاس.. رحم الله الجميع وجعلهم في جنات الفردوس مع الأنبياء والصالحين.