في عتبات المحراب: تلاقٍ بين الروح والسياسة

في عتبات المحراب: تلاقٍ بين الروح والسياسة

في قلب المسجد الأموي بدمشق، حيث تلتقي رائحة التاريخ مع نور الصَّلاة، ثمَّة صورةٌ تجمع وزير الخارجيَّة السعودي، ووزير الخارجيَّة السوري وهما يُصلِّيان في محرابٍ واحدٍ. لحظةٌ عابرةٌ في ظاهرها، لكنَّها تحمل معاني عميقة، تمتد من دمشق إلى مكَّة، ومن دمشق إلى كل قلبٍ عربي ومسلم يَرقب هذا المشهد.

هنا، في هذا المكان الذي شهد صلاة الأمويين، والفاتحين، والمصلحين، تلتقي اليوم دبلوماسيَّة السياسة بخشوع الصلاة. كأنَّما تقول الصورة: ما يجمعنا في هذا المسجد؛ أعمق من السياسة والمصالح. هنا، يسجد الكل لله وحده، ويعلو صوت التوحيد.

وتتجلَّى في هذا المشهد معاني الهويَّة الجامعة: سوريا التي كانت -ولا تزال- قلب العروبة النابض، والسعوديَّة التي تحمل في وجدانها قِبلة المسلمين. وكأنَّما الصورة تقول للعالم: إنَّ الدمشقيَّ حين يصلِّي في مسجده، يصلِّي معه كل مَن حمل في قلبه لغة الضاد، وذاكرة التوحيد.

إنها لحظةٌ من لحظات الرَّحمة التي تتنزَّل على أرضٍ أرهقتها الفتن، وكأنَّها دعاءٌ صامت بأنْ يفتح الله أبواب السلام بين العرب، كما فُتحت قلوبهم جميعًا في هذا المقام. لحظةٌ يتذكَّر فيها العرب أصلهم الذي جمعهم قبل أنْ تفرِّقهم جداول السياسة: أصل الرَّحمة الذي جعلهم إخوةً مهما ابتعدت ديارهم. لحظةٌ تقول، بلا خطب ولا بيانات، إنَّ الدم الذي سُفك في الفتن، يحتاج إلى ماء الوضوء ليُطهِّر ما علقَ في القلوب من أحقاد.

في هذه اللحظة، يبدو وكأنَّ صوت الدعاء يعلو على صوت السياسة، وكأنَّ الأرض نفسها تستريح قليلًا من ثِقل التاريخ، فتتفتح روحها لرجاءٍ جديد: أنْ تُولد أمةٌ تعرف كيف تنقذ ذاتها من جراحها. لحظةٌ يلتقي فيها الواقف في محراب المسجد الأمويِّ، مع الواقف في صحن الحرم المكيِّ، وكلاهما يقول لكل من يرى الصورة: «حين تُفتح القلوب لله، تُغلق أبواب الفتنة، ويصير التاريخ شاهدًا على أنَّ الأمة لا تنكسر ما دامت تعرف وجهتها».

إنَّها لحظةٌ تذكِّرنا بأنَّ الله، إذا فتح باب الرحمة، فلا تُغلقه سياسة ولا حدود.

لحظةٌ تُعيد رسم خريطة الأخوة العربيَّة، من دمشق التي تنبض بالتاريخ، إلى مكَّة التي تحتضن الروح.

لحظةٌ تقول: إنَّما هذه مجرَّد بداية؛ لبناء جسور لا تهدمها العواصف، ولسلامٍ لا يعرفه إلَّا من ذاق طعم السجود.

وهي لحظةٌ يلتقي فيها الواقعي بالرُّوحي: الواقعي: لأنَّها تُعيد تعريف الجغرافيا السياسيَّة بلغةٍ إنسانيَّة صافية، بعد أنْ ظلَّت لسنوات خريطةً تتلاعب بها المصالح. والروحي: لأنَّها لحظة صفاءٍ بين العبد وربه، بين الأمة وربها، حين تعود الكعبة لتكون هي البوصلة، بدلًا من شهوة السياسة، أو ضجيج الإعلام.

لحظة تنبعث فيها روح عابرة للزمان والمكان: كأنَّ التاريخ نفسه يبتسم في صمتٍ، وهو يرى أبناء الشام والجزيرة يقفون في صفٍ واحدٍ، يرددون دعاءً واحدًا، وكأنَّ القلوب التي فرقتها السياسة في عهدٍ بائدٍ، أعادتها الصلاة إلى أصلها الطاهر. لحظة تقول إنَّ الدمشقي الذي يركع في محراب الأموي، والخليجي الذي يمد يديه للسماء، كلاهما يكتب الآن صفحةً جديدةً من كتاب الأخوة.

ثمَّة، أيضًا، في هذه اللحظة التاريخيَّة، بشائرُ عهدٍ جديد، تلوح من الصورة: عهدٌ تدرك فيه الأمَّة أنَّ بناء المدن يبدأ من بناء القلوب. عهدٌ يعيد فيه العرب اكتشاف أنفسهم: بأنَّهم ليسوا قبائل متناثرة، ولا دولًا تتنافس، وإنَّما هم إخوةٌ يجمعهم دينٌ واحدٌ، وقلبٌ واحدٌ. عهدٌ تستعيد فيه دمشق، تلك العروس التي تعبت من الحروب، مكانتها كحاضنةٍ وفيَّةٍ، لكلِّ من يدخل أرضها من باب الأخوة والتعاون.

إنَّها لحظةٌ تختصر فلسفة البناء الحقيقي: فأنْ تُصلِّي معًا يعني أنْ تنوي الخير معًا، وأنْ ترى في شريكك في الصلاة شريكك في الإعمار؛ لأنَّ القبلة الواحدة، إذا اجتمعت عليها القلوب الصادقة، قادرةٌ أنْ تحوِّل الاختلاف إلى طاقة بناء. ولأنَّ دمشق، التي تعرف سرَّ البقاء منذ آلاف السنين، قادرةٌ أنْ تكون مئذنةً لا تُطفأ، ما دامت القلوب تُضيء دعاءها بخشوعٍ صادقٍ.

وكأنَّما الصورة تقول، في نهاية المطاف، ما تعجز عن قوله الخطب والمفاوضات: في عالمٍ تزداد فيه الحروب والكلمات الفارغة، تظل صورة صلاةٍ واحدةٍ هي الأصدق؛ لأنَّها لا تُكتب بالحبر، بل تُكتب بنبض القلوب الصَّافية.

فيا أهل الشام، ويا أهل الجزيرة: صلُّوا معًا، وابنوا معًا.

لعلها بدايةُ عهدٍ جديدٍ، يعيد للمنطقة روحها المفقودة، ويكتب في دفاتر التاريخ: أنَّ دمشق ستظل قادرةً على الجمع، ما دامت القبلة واحدة، والقلوب صادقة في طلب الرَّحمة للعالمين.