خيانــــــــــة

خيانــــــــــة

استمتعتُ -ولله الحمد- بنعمة دراسة وتدريس روائع العمران، لمدَّة خمسين سنةً تقريبًا، وإحدى الخصائص الجميلة المشتركة للمدن الرَّاقية هي «الأمانة» العمرانيَّة. والمقصود هنا هو الحفاظ على المكتسبات الحضاريَّة عبر التاريخ. وستجد بعضًا من أهمِّ الأمثلة المتميِّزة للحفاظ على تلك المكتسبات في الحضارات الإسلاميَّة.. لو بحثت في تاريخ اليهود، عن أهم الكتب الدينيَّة التاريخيَّة، فستجد كتب ووثائق «تيجان الشام»، وبالذَّات حلب، ودمشق.. ويرمز المصطلح إلى مجموعة مخطوطات للكتب المقدَّسة اليهوديَّة التي كُتِبَت من القرن الثالث عشر، إلى القرن السادس عشر على يد «الماسوريين». ولهذه المخطوطات أهميَّة كُبْرى؛ لأنَّها كانت الإرشادات الأساسيَّة لتلاوة نصوص التوراة.. وكانت تدل القارئ لأساسيَّات تشكيل الحروف، والكلمات، والنطق الصحيح للنصوص العبريَّة التوراتيَّة.. بعضها كانت محفوظة في القدس تحت الحكم الإسلامي بسلام، إلى الهجوم الصليبي الوحشي عليها عام 1099.. وتم تهريب المخطوطات إلى القاهرة، ثمَّ إلى بلاد الشام، حيث استقرَّت لمدَّة حوالى تسعمئة سنة في المعابد اليهوديَّة.. وفي التسعينيَّات الميلاديَّة من القرن الماضي، تم تهريب المخطوطات من الشام إلى القدس؛ باستخدام حركات استخبارات الكيان الصهيونيِّ. وتُعرض اليوم في المكتبة الوطنيَّة في القدس.. وفي الرِّوايات الإسرائيليَّة لن تجد ما يشير إلى دور مدينتي حلب ودمشق في الحفاظ على المخطوطات المهمَّة المكوِّنة لهذا الجزء المهم من حياة اليهود حول العالم.. وهناك المزيد، فلو بحثت عن إحدى أهم الوثائق في ثقافة اليهود حول العالم؛ فستجد كتاب «هاقادة سراييفو» في بلاد البلقان.. هذا الكتاب يحمل أهميَّة كُبْرى؛ لأنَّه كُتِبَ للصغار والكبار، ويصف الأسفار التي تبدأ بقصَّة بدء الخلق؛ إلى الخروج من مصر -من وجهة نظرهم- ويتفرَّد بالرسومات واللوحات الملوَّنة، علمًا بأنَّ استخدام الرسومات كان ممنوعًا في الكتب المقدَّسة اليهوديَّة.. وكانت النسخة الوحيدة من الكتاب في الأندلس، ثم تم تهريبها عندما طرد الإسبان الجاليات اليهوديَّة من الأندلس عام 1492م، وتنقلت النسخة في أوروبا إلى أنْ استقرَّت في مكتبة «سراييفو» الوطنيَّة في يوغوسلافيا؛ لتصبح من الأيقونات الثقافيَّة لتلك المدينة. وعند قيام الحرب العالميَّة الثانية، تم احتلال المدينة بأكملها من القوات النازيَّة، وكانت هناك محاولة لمصادرة الكتاب، ولكنَّ أمين المكتبة المسلم «درويش كركوت» قام بتهريب الكتاب وإخفائه، متجاهلًا المخاطر.. وبعد تحرير المدينة في 6 أبريل 1945، عاد الكِتَاب للمكتبة.. وبعد مرور ستة وأربعين عامًا عند قيام حرب البلقان العنيفة عام 1991، قام أمين المكتبة البروفيسور المسلم «انفر إماموفيتش» بتهريب الكِتَاب التاريخي وإخفائه كما فعل سلفه قبل أربعين سنةً.. وبعد انتهاء الحرب تم إعادة الكتاب إلى المتحف.

وأخيرًا وليس آخرًا، لابُدَّ من ذكر أهميَّة «جنيزة القاهرة»، وهي ترمز لمجموعات هائلة من المخطوطات، والوثائق، والأوراق اليهوديَّة القديمة.. تم العثور عليها في معبد «بن عيزره» اليهودي، وفي المقابر اليهوديَّة في القاهرة التاريخيَّة.. والموضوع باختصار هو أنَّ التخلص من الأوراق التي تحمل اسم الله في اليهوديَّة يخضع لإجراءات معيَّنة وأهمها الدفن.. وقد دُفِنَت المخطوطات والوثائق عبر التاريخ، وعندما عُثِر عليها في القاهرة؛ تم تهريب بعضها من الأجانب، فوُضِعَت في متاحف ومكتبات يهوديَّة حول العالم.

* أمنيـــــة:

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الكتب تحكي حكايات تفوق ما تجده على الصفحات وبين السطور، وبداخل بعضها تجدها تحكي حكايات عن كتب أخرى.. وفي حكايات كتب ومخطوطات «تيجان الشام»، و»هاقادة سراييفو»، و»جنيزة القاهرة» وغيرها، نجد دلائل مهمَّة لأمانة الحضارة الإسلاميَّة في التعامل مع الحضارات الأُخْرى، مهما كانت الاختلافات.. أتمنَّى أنْ يُسجِّل التاريخ هذه المبادئ الرَّائعة؛ مهما حاول البعض أنْ ينكرها، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو من وراء القصد.