هل تصبح الصحافة أكثر قسوة؟!

في مقالي السابق بعنوان: «الصحافة الأمريكيَّة بين التوحُّش والتدجين»، شبَّهتُ الصحافة عمومًا ببعض الكائنات الحيَّة، التي يمكن أنْ تجعلها ظروفٌ معيَّنة متوحِّشةً وخارج السيطرة، كما يمكن أنْ تُحوِّلها ظروفٌ أُخْرى إلى كائنٍ رخوٍ «مستأنس»، ليس له أنياب ولا مخالب، مشيرًا إلى أنَّ كلا هذين النقيضين هما في الواقع بمثابة إقصاء للصحافة عن وظائفها الأساسيَّة، وأهدافها السَّامية.
وفي حين يشير مصطلح «التدجين» بوضوح لكافَّة الممارسات السَّاعية لتحويل الصحافة من سلطة رابعة مستقلة، إلى أداة فاقدة للاستقلاليَّة وللإرادة، ومُطوَّعَة لخدمة استقطابات وأجندات معيَّنة، فإنَّ مصطلح «التوحُّش» من ناحية أُخْرى قد يبدو للكثيرين أمرًا غير مألوف، ومثيرًا لتساؤلٍ مفاده: هل يمكن حقًّا للصحافة أنْ تتوحَّش، وكيف؟.
تشيرُ كلمة «توحُّش» في معاجم اللغة -بشكلٍ عام- إلى صفات تشمل الشراسة والعدوانيَّة والقسوة، والانفلات وعدم التحضُّر. ووصف الصحافة بالتوحُّش يعني انفلاتها وفقدانها حسَّ المسؤولية وأخلاقيَّات المهنة، وتحوُّلها إلى فوضى إعلاميَّة بشكلٍ يُلحق الضرر بالمجتمع الذي وُجدت لخدمته.. ويزداد الأمر سوءًا وخطورة فيما لو اجتمع «التدجين»، والـ»توحُّش»، حيث إنَّ كلًّا منهما يُوفِّر بيئة خصبة لظهور الآخر وانتشاره، فكلمة «نقيض» هنا لا تعني بالضرورة أنَّ وجود أحدهما ينفي وجود الآخر.
وهناك العديد من المظاهر التي يدل انتشارها بشكلٍ ممنهج على توحُّش الصحافة، ومنها على سبيل المثال: المبالغة في الإثارة على حساب الدقَّة، التمادي في خرق خصوصيات الأفراد، انتشار المحاكمات الإعلاميَّة وتشويه الصورة، نشر الشائعات والمعلومات المضلِّلة، الميل لاستخدام الخطاب التحريضيِّ أو الشعبويِّ. ومن ضمن الأمثلة التي تحضرني بهذا الخصوص، قضية التَّنصُّت غير المشروع عام 2011 على هواتف العديد من المشاهير، وضحايا الجرائم، والتي طالت صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» واسعة الانتشار، ودفعت مالكها روبرت مردوخ لاتِّخاذ قرار بإغلاقها وتعويض المتضرِّرين. كما يذكر الجميع قضيَّة مطاردة الباباراتزي والصحفيين للأميرة ديانا، والذي تسبَّب بحادث سير مأساوي أودى بحياتها عام 1997، ونتج عنه موجة من الانتقادات الحادَّة للصحافة الصفراء البريطانيَّة وممارساتها غير الأخلاقيَّة.
وهناك مظاهر أخرى لتوحش الصحافة تحدثت عنها في مقالٍ سابق، ووصفتها بمعطلات الإعلام، ومنها انتشار الشللية في الوسط الإعلامي، وهي أحد مظاهر التوحش القاتلة للإبداع والكفاءات. ورغم صعوبة رؤية الشللية، إلا أنها تتجلى في أمور منها: تكرار نفس الأسماء في الأعمال الدرامية والفنية، وتكالب أفراد الشلة ضد منتقديهم والمختلفين معهم في الرأي، وصولاً لممارسة التحريض والإقصاء واغتيال الشخصية بحقهم.
كما تتوحَّش الصحافة عندما يتم تحويلها إلى أداة لتحقيق المصالح الشخصية، فليس هناك أسوأ من تحوُّل هذه المهنة النبيلة الحسَّاسة إلى أداةٍ للتسلُّق والتزلُّف والتسوُّل، والبحث عن المصالح الشخصيَّة بكافَّة أشكالها.
وأخيراً وليس آخراً، تتحوَّل الصحافة إلى وحشٍ خطير؛ عندما يتحكم في مفاصلها أشخاص مؤدلجون، فمشكلة الشخص المؤدلج – يمينًا أو يسارًا- هو أنَّه يؤمنُ بشدَّة بفكرٍ معيَّن لا يقبل سواه، ويرى أنَّ كلَّ ما عداه خاطئ ينبغي محاربته وتدميره. وليس لدي أدنى شك بأن أخطر أماكن يتواجد فيها «المؤدلج» هما الإعلام والتعليم.
الخلاصة.. توحُّش الصحافة ليس مجرَّد تجاوزات فرديَّة، بل يُشير إلى فقدان المنظومة الإعلاميَّة لانضباطها ولبوصلتها الأخلاقيَّة، فتُضحِّي بالحقيقة ومصالح المجتمع من أجل السبق، المشاهدات، التوجهات الفكريَّة، والمصالح الخاصَّة.. وبقاء الصحافة كسلطة رابعة حقيقيَّة يتطلَّب توازنًا مخلصًا بين الحريَّة والانضباط، والتزامًا صادقًا بأخلاقيَّات المهنة.