قداسة مكة وتنقية البيت الحرام

قداسة مكة وتنقية البيت الحرام

‏اليوم هو الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، حيث يقضي الحجَّاج في منى يومًا كاملًا بخمسة فروض، وهو من السنَّة النبويَّة الشريفة، حيث كان الناس يرتوون ‏من الماء في منى؛ لقربها من مكَّة، ‏ويتزوَّدون منها قبل ذهابهم إلى عرفات، ‏وهو من أهم مناسك الحجِّ عند معظم المذاهب، ‏وفي حديث جابر بن عبدالله: «فلمَّا كانَ يومُ الترويةِ توجَّهُوا إلَى منى، فَأَهلُّوا بالحجِّ، وركبَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فصلَّى بها الظُّهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاءَ، والفجرَ»، ثمَّ ينطلق الحجَّاج بعدها إلى عرفات.

‏لا يمكن تصوُّر حجم العمل الجبَّار، الذي تقوم به الدولة في خدمة حجَّاج بيت الله الحرام، ومنها التفويج للمشاعر المقدَّسة، وإدارة الحشود، فهناك أكثر من 17 ألف حافلة لنقل الحجَّاج، والذي يصل عددهم إلى أكثر من مليوني حاجٍّ ومقدِّم خدمة، ‏بالإضافة إلى النقل من خلال قطار المشاعر، وفي مساحة لا تزيد عن 33 كم٢، مع المحافظة على نظافة المشاعر المقدَّسة من خلال أسطول الخدمات من أمانة العاصمة المقدَّسة.

‏إنَّ هذا الجمع الهائل يتطلَّب جهودًا جبَّارة في الإدارة التنظيميَّة من كافة الجهات الخدميَّة، ومنها وزارة الحجِّ، وشركات تقديم الخدمة، ووزارة الداخليَّة، والربط مع النقابة العامَّة ‏للسيَّارات التي تعمل من خلال نظام تقنيٍّ؛ وهو (منصَّة ضيف) ‏وبرنامج (أرشدني) ‏لإرشادات الحافلات، فتنقل هذه الحشود من مكَّة إلى منى، ‏ومنذ اليوم السابع من ذي الحجَّة، ثم في صباح اليوم التاسع يُنقَلون لعرفات، ومن ثم إلى مزدلفة، ثم إلى منى مرَّة أُخْرى.. وهكذا؛ ‏حلقة متشابكة ومعقَّدة، ولكنْ بفضل الله وتيسيره، وبفضل توجيه القيادة الحكيمة، بقيادة خادم الحرمين ‏الشَّريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، وإشراف الوزارات في منظومة الحجِّ، وجهود شركات تقديم ‏الخدمة، نُحقِّق -بحمد لله- كل عام ‏انسيابيَّة عالية في الحركة، وأداء الحجَّاج لمناسكهم بسلامة واطمئنان.

ونحن لا ننكر وجود صعوبات وتحديات، من أهمها بعض الحجاج أنفسهم، وعدم وعيهم بالكثير من الأمور التنظيمية والخدمية، بالرغم من التأكيد عليهم عند إبرام العقود بتوعيتهم من بلادهم، ومن ذلك المحافظة على نظافة وقدسية مكة ‏والمشاعر المقدسة، وعدم رمي المخلفات، ‏ومع ذلك نشاهد الكثير من مظاهر اللامبالاة في النظافة، ورمي النفايات من هنا وهناك؛ مما يسبب الإضرار بالبيئة والصحة العامة.

‏وفي المقابل هناك بعض الدول التي تقوم فعلًا بتوعية وتثقيف حجَّاجها، ‏وقد شاهدنا فيديو يثلج ‏الصدر عن حجَّاج من الصين، قاموا بحملة تنظيف لبعض الشوارع تعظيمًا لمكَّة.. ‏وهذا ما يجب أنْ تتناوله جميع الدول ‏لحجَّاجها؛ لأنَّ تأصيل قيم تعظيم البلد الحرام في النفوس من أصل الدِّين، حيث قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا)، ‏فالمثابة هي ‏أنْ يتوبوا إليه ويعودوا، ‏لحصول المنافع الدينيَّة والدنيويَّة، ‏فلابُدَّ أنْ يكون آمنًا لكلِّ مخلوق من كلِّ شيء، فما بالك بضيوف الرَّحمن؟ بل قال تعالى: (‏وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، ‏والآية الكريمة هنا تشير إلى أهميَّة تطهير البيت من القاذورات في أماكن العبادة.. ‏وإلَّا فمكَّة كلها حرم، ‏وتطهيرها واجب على كلِّ مسلم، فهي بلد الله الحرام، التي لا يُسفَك فيها دم، ولا يعضَّد ‏شجرها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تنتهك فيها حُرمة، كيف لا ‏وهي مرتبطة بركنين من أركان الإسلام، وهما الصَّلاةُ والحجُّ؟.

‏لذا على الحجاج أنْ يكونوا على وعي باجتنابهم ‏للخطايا والذنوب؛ لأنَّ اقترافها يُورِّث غضب الله تعالى ومقته، ‏لشرف الموضع والمكان ‏كما قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، والظلم هنا يتمثَّل في معصية الله برمي النفايات، والإخلال بالنظافة العامَّة وتلوُّث البيئة، ‏بالرغم من الجهود الكبيرة التي توليها أمانة العاصمة المقدسة في النظافة.

‏والنقطة المهمَّة هي أنَّ مقدِّمي الخدمات ‏في شركات الحجِّ، ومن باب الإغداق على الحجَّاج والكرم؛ يقومون بعمل البوفيهات المفتوحة، وحتَّى في الوجبات العادية، تكون الكميَّات زيادة عن العدد المحدد خشية النقص.

نتمنَّى أنْ تكون الجمعيَّات الخيريَّة وجمعيَّات حفظ النعمة مرافقة للشركات لجمع الفائض من الأطعمة والمشروبات، وتقديمها لفقراء البلد الحرام.. فليس مقبولًا أنْ نرى كراتين من مياه الشرب، أو الوجبات التي لم تُستخدم مُلقَاة على جوانب الطرقات، وكذلك الحال في الفنادق والمستشفيات، فرمي كميَّات كبيرة من الطعام الزَّائد دون فرز الصالح منها، يعتبر من الهدر والإسراف، حيث قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)‏، وقد يكون عدم حفظ النعمة سببًا في سخط الله على المسلم؛ لأنَّه لم يشكر الله حق شكره بالمحافظة عليها.