السعودية وعلوم إدارة الحشود

يُعدُّ موسم الحجِّ أحد أكبر التجمُّعات البشريَّة المنتظمة على وجه الأرض، ومعه برزت تحدِّيات صحيَّة فريدة تتطلَّب تخصصًا دقيقًا في إدارة الحشود والرِّعاية الطبيَّة أثناء الفعاليات الجماهيريَّة.
في هذا السياق، اضطَّلعت المملكة بدور رياديٍّ في تطوير ما أصبح يُعرف اليوم بـ»طب الحشود»، وهو تخصص طبيٌّ حديث يركِّز على الاستعداد والاستجابة الصحيَّة في التجمُّعات واسعة النطاق، وقد راكمت المملكة عبر عقود من تنظيم مواسم الحجِّ والعُمرة خبرات معرفيَّة وتشغيليَّة متقدِّمة، مكَّنتها من أنْ تكون مرجعًا عالميًّا في مجالات الجاهزيَّة الصحيَّة، والسيطرة على الأوبئة، وتقديم الرعاية المجانيَّة، وتوظيف التكنولوجيا الطبيَّة، وضمان سرعة الاستجابة لحالات الطوارئ. ومن منطلق هذه التجربة الفريدة، بادرت وزارة الصحَّة بالتعاون مع مجلة ذا لانسيت للأمراض المُعدية، بتنظيم أول مؤتمر دولي لطب الحشود في مدينة جدَّة في 2010، وقد اختُتم المؤتمر بـ»إعلان جدَّة»، الذي شكَّل خارطة طريق عالمية لتقنين هذا التخصص الناشئ، ودعا إلى إنشاء مرجعيَّة دوليَّة لصحَّة التجمُّعات الحاشدة تتخذ من المملكة مقرًّا لها. واستجابة لذلك، تم تأسيس «المركز العالمي لطب الحشود» في الرياض عام 2012، من خلال شراكة إستراتيجيَّة بين وزارة الصحَّة السعوديَّة ومنظَّمة الصحَّة العالميَّة، ومنذ ذلك المؤتمر التأسيسي، نظَّمت المملكة مؤتمرين إضافيين في عامي 2013 و2017، واستمرَّت في ترسيخ هذا التخصص من خلال المؤتمر الدولي الرابع الذي عُقد في 2019 في جدة، وكذلك المؤتمر الخامس في عام 2023، ليُثبت التزامها المتواصل بتعزيز الأمن الصحي للحشود.
ولقد نصَّ إعلان جدَّة صراحة على تكليف الهيئة السعودية للتخصصات الصحيَّة بدور محوري في تطوير برامج تدريبية متكاملة لطب الحشود. وعملت الهيئة سابقًا وحاليًّا على إعداد إطار كفاءات ودورات تدريبيَّة، بالتعاون مع المركز العالمي لطب الحشود في الرياض، ويهدف هذا الإطار إلى تحديد المعارف والمهارات والسلوكيات المطلوبة من الممارسين الصحيِّين بمختلف مستوياتهم، لتمكينهم من التعامل بكفاءة مع سيناريوهات معقَّدة تشمل الأوبئة، والإجهاد الحراري، والإدارة الطبيَّة للكوارث، كما تُشرف الهيئة على برنامج زمالة طب الكوارث، وهو مسار مهني متخصِّص يهدف إلى تدريب الأطباء في مجالات الاستجابة للطوارئ الصحيَّة، والاستعداد للكوارث الطبيعيَّة، والسيطرة على الأوبئة، وتوفر المملكة رعاية طبيَّة للحجَّاج، حيث يشارك نحو 30 ألف ممارس صحي في خدمتهم، ووفقًا لمنظمة الصحَّة العالميَّة، لا توجد نسبة موحدة واجب توافرها من الممارسين الصحيِّين تنطبق على جميع الفعاليات؛ حيث تختلف الاحتياجات بناءً على نوع الحدث، ومدته، وخصائص الجمهور، والمخاطر البيئية. ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أنَّ الفعاليات منخفضة الخطورة قد تتطلَّب ممارسًا صحيًّا واحدًا لكل 1,000 إلى 2,000 مشارك، بينما قد تحتاج الفعاليات عالية الخطورة -مثل الحجِّ- إلى نسب أعلى؛ مثل ممارس واحد لكل 500 مشارك أو أقل، اعتمادًا على تقييم المخاطر. وتكون النسبة في الحجِّ بالمملكة ما يقارب ممارسًا صحيًّا واحدًا لكل 200 حاجٍّ، يتوزَّعون في مناطق مختلفة عبر توفير مستشفيات ميدانيَّة، وعيادات متنقلة، وفرق استجابة سريعة.
د. صبحي الحداد