دروس نفسية عن شعائر الحج

دروس نفسية عن شعائر الحج

حينما تسعى المملكة بكل جهد لتيسير موسم الحجِّ، وتوفير أجواء آمنة ومريحة للحجيج من جميع أنحاء العالم، فإنَّ ذلك يعزِّز الشعور بالطمأنينة والسكينة النفسية لديهم، ويتيح لهم التركيز الكامل على تجاربهم الروحية والاجتماعية التي تُحدث تحوُّلًا عميقًا في نفوسهم.

وحين تفيض شاشات العالم بمشاهد الحجيج المتدفقين إلى بيت الله الحرام، أجدني أُمعنُ النظر في هذا الحدث الإنسانيِّ الاستثنائيِّ، ليس بعين المتابع العادي، بل بعين الباحث في النفس البشرية. فالحجُّ ليس مجرد رحلة روحية فحسب، بل هو عرضٌ حيٌّ، نابض، لأعمق ما تنطوي عليه النفس الإنسانية؛ كأنَّها تُكتب وتُقرأ من جديد بين تلك الجموع التي طافت وسعت ووقفت بعرفة.

وحين يجتمع الحجَّاج في مكَّة المكرَّمة، من شتى بقاع الأرض، على صعيد واحد، يلبُّون نداء الروح، مجرَّدين من زخرف الدنيا، تدرك أنَّ ثمَّة شيئًا أعظم من مجرد طقوس تُقام أو شعائر تُؤدَّى. ففي قلب تلك اللحظات الخاشعة، تنبض النفس البشرية بأصدق معانيها. ويصبح موسم الحجِّ كأنَّه مختبرٌ إنسانيٌّ قلَّ نظيره؛ تشاهد فيه أنماط سلوك الأفراد، وتلحظ كيف تتشكَّل الجماعات، وكيف تتغيَّر النفوس.

ومع توافد الجموع من أقاصي الأرض، ترى كيف تذوب الهويات القوميَّة، والعرقيَّة، والاجتماعيَّة، في هوية واحدة؛ هوية الحاجِّ. فلا فرق بين غنيٍّ وفقيرٍ، ولا بين أبيضَ وأسودَ، ولا بين لغات ولهجات. الجميع سواسية أمام الله تعالى، يردِّدون ذات التلبية. وهو مشهد يعلِّمنا أعمق دروس الانتماء الإنساني المشترك.

ولا يمكن لمَن يراقب سلوك الحجيج إلَّا أنْ يلحظ كيف يتعلَّم الناس من بعضهم البعض. ينظر الحاج المبتدئ إلى مَن حوله؛ يتعلَّم منهم في النسك، والدعاء، وأنواع العبادات، في أدب التعامل. وهكذا تُنتقل القيم والسلوكيات الإيجابيَّة من فرد إلى آخر، لا بالكلمات فقط، بل بقوة الملاحظة والمشاركة.

لكن أعظم ما لمسته وشهدته مرارًا في حديث العائدين من الحجِّ، هو التحوُّل العميق في النفوس، وكيف أعادت صياغة رؤيتهم للحياة. ففي لحظات الصفاء على صعيد عرفة، وفي خلوات الليل بين المناسك، يخوض الإنسان رحلة صادقة مع ذاته؛ يراجع أعماقه، ويعود في الغالب أكثر تصالحًا مع نفسه ومع العالم.

وفي خضم الحشود المتدفقة كالسيل، تدرك أنَّ هناك قوة خفية تسري بين هذه الجموع؛ تجعلهم يتحرَّكون بتناغم وانسجام يفوق التوقع. في تلك اللحظات، يشعر الفرد بأنَّه ليس وحده، بل هو جزء من كيان أعظم؛ من جماعة تسير بروح واحدة وغاية واحدة.

لهذا كثيرًا ما أقول لطلابي بالجامعة: إنْ أردتم أنْ تروا النفس البشرية وهي تنبض بالحياة، فانظروا إلى مشهد الحجِّ. ففيه دروس لا تُقدَّر بثمن عن طبيعة الإنسان، عن قوة الجماعة، وعن الحاجة العميقة إلى المعنى والانتماء.

وفي النهاية، ربما تكون أعظم حكمة نتعلَّمها من الحجِّ، هي أنَّ الإنسان، حين يُلبِّي نداء الله تعالى نحو أداء فريضة الحجِّ كركن من أركان الإسلام، فإنَّه يتحرَّر من أعباء الأنا، ومن صراعات الهوية الضيِّقة، ليذوب في نهر إنسانيٍّ عظيم؛ حيث تتلاقى الأرواح على بساط الرَّحمة. ذلك هو الدرس الأكبر، والسرُّ الذي يجعل مشهد الحجِّ يتكرر كل عام، جديدًا كما لو كان أوَّل مرَّة.