فيصل في الواجهة والغياب في الخلفية

لم تكن رحلة فيصل مجرَّد لحظة عابرة، بل كانت حلمًا لعائلة صغيرة تمنَّت له الضحك، أنْ يركض بين الأشجار، أنْ يلمس الماء البارد بيديه الصغيرتين، أنْ يعيش دهشة المكان الجديد. لكن الحلم توقَّف عند صورة، وآخر ضحكة، وألم خلفهما لا تصفه الكلمات.
حادثة غرق الطفل فيصل -رحمه الله- في «طرابزون» التركية ليست الأولى، ولنْ تكون الأخيرة، لكنَّها كافية لتوقظ فينا تساؤلات صامتة عن حجم ما نجهله حين نغادر مناطقنا المألوفة. هناك، خلف المناظر الخلَّابة، تقف بيئات لا نعرفها، ومخاطر لا نُدركها إلَّا حين يُصبح الإدراك متأخرًا.
نحن نعيش زمن الصورة، نختار وجهاتنا بناءً على مشهد جميل في حساب مسافر، أو إعلان مبهج، وننسى أنَّ خلف تلك الصور قد يكون واقع مختلف تمامًا: تيار ماء لا يُرحم، أرض زلقة لا تظهر في الكادر، أو طقس يتبدَّل بغتةً دون إنذار.
هنا تكمن المعضلة: كثيرون يظنُّون أنَّ السفر لا يتطلَّب أكثر من جواز، وحقيبة، وتذكرة، بينما الحقيقة أنَّ «الوعي» هو أهم ما يجب أنْ نحمله معنا. وعي بطبيعة المكان، بحدوده ومخاطره، بطقس قد يتحوَّل فجأة، ووعي بأنَّ الأطفال لا يملكون الحذر الفطري تجاه المجهول.
لا نكتب لنمنع أحدًا من السفر، بل لنُضيء فكرة ضروريَّة: أنْ يكون الحذر جزءًا من ثقافتنا، لا ردة فعل بعد وقوع الخطر. أنْ نُخطط لرحلاتنا ليس فقط بقلوبنا، بل بعقولنا أيضًا.
وفي المقابل، حين ننظر داخل حدودنا، نجد أنَّ الجَمَال ليس نادرًا، ولا الأمان بعيدًا من برد أبها وظلالها الخضراء، إلى الباحة بظلالها الصامتة، والطائف بعبق وردها وروحها الصيفيَّة؛ نجد ما نبحث عنه دون أنْ نضع أبناءنا على حافة المجهول.
المسألة لم تعد عن السفر فحسب، بل عن نمط حياة، عن وعيٍ يسبق القرار، عن مسؤوليَّة تجاه مَن نحب، وعن إدراك أنَّ كل رحلة يجب أنْ تُروى لاحقًا لا كذكرى حزينة، بل كتجربة عاشت معنا وتركت أثرًا جميلًا.
قبل أنْ نحزم الحقيبة ونختار وجهتنا المقبلة، علينا أنْ نسأل أنفسنا: هل نُسافر لأنَّ الصورة أغرتنا؟ أم لأنَّنا نعرف الأرض التي سنخطو عليها؟
السفر، في النهاية، ليس فقط الابتعاد عن البيت، بل العودة إليه سالمين… بأجسادنا، بعقولنا، وبأرواحنا كاملة.