من “ماحل” إلى تنظيمات إجرامية: كيف بنت إسرائيل آلية سرية للحرب ضد العمق الفلسطيني؟

من “ماحل” إلى تنظيمات إجرامية: كيف بنت إسرائيل آلية سرية للحرب ضد العمق الفلسطيني؟

المركز الفلسطيني للإعلام

منذ اللحظة الأولى لتشكيلها، لم تعتمد “إسرائيل” فقط على جيش نظامي في صراعاتها، بل أولت أهمية خاصة لتوظيف قوى غير تقليدية: المرتزقة، العصابات، والميليشيات العابرة للحدود.

غير أن ما برز خلال حرب غزة في أكتوبر 2023، كشف عن منعطف استراتيجي بالغ الخطورة، حيث لم تكتف إسرائيل بتجنيد عناصر من الخارج، بل لجأت – وفق تقارير وتحليلات متواترة – إلى تجنيد عصابات إجرامية وعناصر محلية لتفكيك النسيج الفلسطيني من الداخل.

عصابة أبو شباب شرق رفح.. سلاح بيد الاحتلال لزرع الفوضى في غزة


التحول الإسرائيلي الأخير لا يعكس فقط تغييرًا في أدوات الاشتباك، بل يمثل انتقالًا من المواجهة المباشرة إلى تفكيك البيئة الحاضنة للمقاومة.

وفقًا لتحليلات استخباراتية وإعلامية، فإن استخدام عناصر إجرامية كـ”وكلاء فوضى” يهدف إلى ضرب الروابط الاجتماعية داخل قطاع غزة، وإعادة تشكيل البيئة المحلية بما يتماشى مع الاستراتيجية الإسرائيلية الأوسع: إدارة الصراع بدلًا من حله.

لم تعد “إسرائيل” تستهدف فقط البنية التحتية للمقاومة، بل تسعى الآن إلى تفكيك المجتمع من الداخل، عبر تسليح جماعات متمردة خارجة عن القانون، وتشجيعها على إحداث اقتتال داخلي، بهدف إشغال المقاومة في جبهات متداخلة.

توظيف المرتزقة ليس انحرافًا عارضًا في التجربة الإسرائيلية، بل هو مكوّن تأسيسي.

فقد لعب متطوعو “ماحل” في أربعينيات القرن الماضي دورًا مركزيًا في تأسيس الجيش الإسرائيلي، وكانوا غالبا من قدامى محاربي الحرب العالمية الثانية.

تسليح الميليشيات في غزة .. بين فشل الاحتلال العسكري وهندسة الفوضى


هؤلاء لم يُعاملوا كأجانب، بل كقوة نوعية استُثمرت في بناء الجيش وخوض المعارك المفصلية، من حرب 1948 حتى العمليات السرية الحديثة.

وقد حصل معظمهم على الجنسية فورًا، وتولوا مناصب قيادية في سلاح الجو والمخابرات والوحدات الخاصة، الأمر الذي رسّخ “ثقافة المرتزقة” كأداة مشروعة داخل الذهنية الأمنية الإسرائيلية.

مع تصاعد المواجهات في غزة أواخر 2023، ظهرت مؤشرات واضحة على أن إسرائيل تعيد تعريف مفهوم “الحرب بالوكالة”.

تقارير صحفية وأمنية ألمحت إلى أن وحدات خاصة إسرائيلية قدّمت دعمًا ماليًا ولوجستيًا لعناصر محلية تُتهم بالارتباط بتنظيمات مثل “داعش” في سيناء وجنوب القطاع، وهو ما أقره نتنياهو رسمياً.

تُستخدم لزعزعة سلطة المقاومة، ونقل صورة بأن غزة لا يمكن حكمها حتى من قبل “حماس”، وبالتالي تبرير أي عملية اجتياح أو إعادة احتلال جزئي تحت غطاء “فرض الاستقرار”.

تدار منظومة المرتزقة الإسرائيلية من خلال شبكة معقدة تضم شركات أمنية خاصة ومنظمات غير حكومية.

من بين أبرز هذه الأسماء: “بلاك ووتر”، و”ريفن”، و”غلوبال سي إس تي”، وكلها مؤسسات تملك سجلًا حافلًا في إدارة النزاعات لصالح جهات متعددة.

كما أعادت منظمة “ماحل” الإسرائيلية تنشيط عملياتها بعد حرب غزة الأخيرة، لتجنيد آلاف المقاتلين من أكثر من 40 دولة. ومن بين البرامج البارزة:

“برنامج الجنود مزدوجي الجنسية”: ويضم عشرات الآلاف ممن شاركوا في العمليات القتالية خلال الحرب.

هذا الحضور الأجنبي المموّه داخل الجيش الإسرائيلي يثير تساؤلات قانونية وسياسية معقدة حول الولاء والمسؤولية الدولية لهؤلاء الأفراد.

تشير تحقيقات ميدانية إلى أن تجنيد العصابات المحلية يعتمد على استغلال الفقر واليأس في غزة وسيناء.

يُعرض على الأفراد مبالغ مالية، أو وعود بالحماية أو الهروب، مقابل تنفيذ أعمال تخريبية: نهب مساعدات، زرع الفوضى، أو تسريب معلومات.

تكمن الخطورة في أن هذا النوع من التوظيف لا يقتصر على الحاضر، بل يزرع بذورًا طويلة الأمد للانقسام المجتمعي، ويهدد أي محاولة مستقبلية لبناء استقرار فلسطيني داخلي.

رغم توفّر أدلة على تورط مرتزقة – خصوصًا أوروبيين – في ارتكاب انتهاكات جسيمة خلال حرب 2023، بما فيهم استهداف المدنيين والأطفال، إلا أن معظم الدول الغربية لم تتخذ أي إجراء قانوني بحق مواطنيها المتورطين.

يرى خبراء القانون الدولي أن هذا الصمت يمثل تواطؤًا سياسيًا يقوّض مبادئ العدالة الدولية، ويمنح إسرائيل غطاءً للمضي قدمًا في سياسات “الردع غير النظامي”.

في ظل هذا التوسع المنهجي في استخدام الجريمة المنظمة والعناصر المتطرفة كأدوات صراع، تقف إسرائيل أمام اتهامات متزايدة بأنها لا تدير فقط آلة حرب تقليدية، بل تطوّر نموذجًا هجينًا من الحروب النفسية والاجتماعية، حيث تتحوّل الجريمة إلى أداة استراتيجية، ويُدار الصراع عبر “وكلاء فوضى” محليين ودوليين، في واحدة من أخطر التحولات الجيوسياسية في المنطقة.