ما بعد الخيبة الثانية

ما بعد الخيبة الثانية

كنا نحسب أن موقف بعض النظام العربي الرسمي من العدوان على غزّة محض خذلان، وأنه صدر خوفاً من ردّة فعل صهيونية غاضبة ومزلزلة، ولكنّنا (كاتب هذه السطور على الأقلّ) اكتشفنا أن لا علاقة للأمر بالخذلان والتخلّي عن نصرة الأخ، فالأمر أبعد من هذا، وأكثر فداحةً ووقاحةً، بل أكثر إيلاماً وأعمق جَرحاً وإيذاءً. كان انخراطاً أسطورياً في العدوان، والوقوف مع العدو كتفاً بكتف في خوض حربه الفظيعة، وغير المسبوقة. كان أكثر من خيانة بمفهومها القذر، وأكثر بشاعةً ممّا نعرفه من خيانات تاريخية شهدتها هذه الأمّة. كان ضرباً مستحدثاً من النفاق البذيء، حتى أكثر بذاءةً من نفاق العهد الأول من الرسالة المحمّدية، فهو نفاق ممزوج بالكفر والردّة والتآمر، والإيغال في الإيذاء بلا أدنى رحمة من أثر هذا الموقف المخزي على مليوني غزّي بريء، لطالما هتفوا “واعرباه”، وهم غافلون عما يفعل من يستغيثون بهم.

موقفان كشفا للعامّة أن “الخذلان” صفةٌ حسنةٌ، وحتى “محبّبة”، قياساً بما يفعل بعض العرب بالخفاء كي يصل النصل المغروس في ظهر الغزّيين إلى عمق أعماق أجسادهم. الأول ما كشفه الناطق باسم الجنائية الدولية، حين قال إن بعض أنظمة العرب (لم يسمّها تحديداً) عرقلت جهود المحكمة في إجراء تحقيقاتها لإدانة قتلة الصهاينة في حربهم على غزّة، والدفع بإفلات قادة عصابة القتلة من العقاب، والحيلولة دون إصدار مذكّرات اعتقال دولية بحقهم. والثاني ما كشف جهوداً عربيةً رسميةً مضنيةً لدفع الإدارة الأميركية إلى إعلان التنظيم العالمي للإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، بسبب انتماء المقاومة الفلسطينية في غزّة إليه حين تأسيسها، وانبثاقها منه، قبل أن تعلن نفسها حركةَ مقاومة مستقلّة عنه، ولارتباطها أيديولوجياً بفكر الجهاد، وما يسمّونه “الإسلام السياسي”.

المبرّر الذي يسوقه “الوطنيون” العرب، المغرمون بتأبيد حدود سايكس بيكو، للنأي ببلدانهم عن نصرة غزّة فعلاً وقولاً، يتعلّق برغبتهم في حماية بلادهم من بطش الصهاينة و”طول يد” طيرانهم الحربي، الذي يهدّد أي بلد ينصر غزّة بغارات مدمّرة ساحقة ماحقة، على نحو ما فعل بلبنان، وما يرغب بفعله (ولا يستطيع) في اليمن، ومن بعد اليمن بإيران، وهو موقف فيه رائحة وجاهة (إن جاز التعبير)، فمن حقّ أيّ بلد أن يحافظ على أمنه وأمن أهله، ومن حقّه أن “يقيس قبل أن يغيص”، كما يقول المثل الشعبي، فأنت حين تقرّر أن تدخل معركةً عليك أن تحسب نتائجها، ومدى قدرتك على حسمها وتحقيق النصر فيها، ولكن هذا المبرّر في ظنّي يحتاج فحصاً معمّقاً، فلو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّته، ولكن كره الله انبعاثهم و”قيل اقعدوا مع القاعدين”. وبالتعبير البسيط: هم لم يريدوا أصلاً أن ينتصروا لغزّة، حتى لو ملكوا القدرة على هذا، ولنا في التاريخ عبرة. فخلال حرب 1967، كان “عقلاء” الأمّة من العسكريين المخلصين يعرفون أن العرب ذاهبون إلى معركة خاسرة، ولكن أصحاب القرار آنذاك لم يستمعوا لتحذيرات هؤلاء وأولئك، وخاضوا حرباً لم تستغرق غير ستّ ساعات، حسمت فيها الأمور لمصلحة احتلال سيناء المصرية والضفة الفلسطينية والجولان السوري، والشاهد هنا أنك حين تقرّر خوض معركة غير مستعدّ لها، فهذا يعني أنك لا تريد أن تنتصر عن سابق إصرار وتصميم، ولهذا يرى “وطنيو” العرب أن الانخراط في حرب غزّة بمثابة انتحار، لأنهم فعلاً لم يستعدّوا لها، والأهم أنهم لا يريدون الاستعداد، وبالتالي، لا يريدون الانتصار لسبب، بل لمليون سبب في نفس يعقوب.

إن كان ذلك كذلك، ماذا يريد النظام العربي الرسمي أن يقول لرعاياه من أبناء هذه الأمّة؟… أحبّوني وطبّلوا وزمّروا لي، رغم تاريخي الأسود وحاضري المقيت؟ قفوا معي في دعم قتل أبناء غزّة لأن فيهم مقاومين شرسين تمرّدوا على تاريخ عربي مخزٍ؟ كيف لي أنا المواطن العربي، الذي تجرّع كؤوس الهزيمة طيلة سبعة عقود، هي تاريخ حياتي كلّها، أن “أتفهّم” موقف النظام العربي الرسمي ممّا جرى ويجري؟ بل كيف لي أن أتسامح مع تاريخ مذلٍّ وحاضر مخزٍ ومستقبل أسود (إن تحقّق لا سمح الله!) مع بقاء هذا النظام الرسمي صاحب يدٍ عليا في رسم مصير هذه الأمّة وتحديد مستقبلها؟ أيُّ ذلٍّ سيعيشه أبناؤنا وأحفادنا والأجيال الآتية إن بقيت تلك العقلية المهزومة المتآمرة متحكّمةً في رقاب البلاد والعباد؟

هل المطلوب مني أن أطبّل وأزمّر للوطنية والقومية العربية، وأن “أبرّر” كلّ الهزائم التي وقعت، والتي ستقع، بحجّة الحفاظ على “أمن البلد” و”الهوية الوطنية” تحت عنوان “بلدي أولاً”، ومصلحتي الخاصّة أولاً، واقتصادي المحلّي أولاً، وعملتي الوطنية أولاً، والسياحة أولاً؟ بل هل سيترك هذا العدوان الصهيوني المتوحّش، المعربد شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، بلداً عربياً بمنأى عن عدوانه إن لم يشعر بأن هناك من هو قادر على ردعه، ووضع حدّ له، وقطع يده الممتدة، ليس إلى رقاب أهل غزّة، بل لكل رقبة عربي ومسلم في هذا العالم؟