د. جمال القليوبي يكتب: النزاعات وتأثيرها على أسواق النفط العالمية

لم يكد يمر أكثر من شهر على الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي ترامب على الأسواق العالمية، والتي أحدثت هزة كبيرة من الشك والتخوف بشأن استمرارية الخطط الاقتصادية والصناعية لدى معظم دول العالم. وقد أسفرت هذه الخطوة عن نتائج سلبية، تمثلت في توقف العديد من التعاقدات المتوسطة وطويلة الأجل، ما أدى إلى هبوط أسعار النفط الخام في الأسواق والبورصات العالمية إلى ما دون 56 دولارًا أمريكيًا للبرميل. وهو أدنى مستوى تصل إليه الأسعار منذ أعوام، رغم التكتل الناجح بين “أوبك” و”أوبك بلس” بقيادة السعودية وروسيا.
وكان المستفيد الأكبر من هذا الانخفاض هي الولايات المتحدة، حيث سعى الرئيس ترامب من خلاله إلى تعويض الخسائر التي تكبدتها بلاده بعد قرار الرئيس جو بايدن باستخدام جزء كبير من المخزون الفيدرالي وطرحه للبيع أثناء ارتفاع السعر إلى أكثر من 85 دولارًا، في محاولة لإعادة استقراره عند حدود 80 دولارًا.
وقد واجهت “أوبك” و”أوبك بلس” ضغوطًا مباشرة من الرئيس ترامب لخفض أسعار النفط، إلا أن المنظمة لم تستجب بشكل مباشر لتلك التصريحات. ولكن يبدو أن قرار فرض الرسوم كان أحد أدوات الضغط لإجبار الدول المنتجة على وقف التعاقدات، ما دفع “أوبك” إلى الرد بسرعة من خلال زيادة إنتاج الخام لاستيعاب أي تقلص محتمل في الطلب العالمي. ورغم النفي الرسمي لتأثر المنظمة بالقرار الأمريكي، إلا أن “أوبك” كانت، بشكل شبه كامل، تسيطر على السوق العالمي، وتوظف إنتاج النفط كأداة سياسية واقتصادية لمواجهة تلك الضغوط. ومع ذلك، لم تفلح تلك الإجراءات في وقف تهاوي الأسعار، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ أربع سنوات.
ولولا قرار البيت الأبيض بتجميد فرض الرسوم لمدة 3 أشهر، لكانت أسعار النفط قد واصلت انخفاضها، وكان تكتل “أوبك” سيجد نفسه في موقف حرج للتعامل مع تداعيات الحرب التجارية الانتقامية لسياسة ترامب، والتي كانت تهدد بحدوث انكماش اقتصادي عالمي.
وبعد تراجع ترامب عن القرار، عادت أسعار النفط إلى الارتفاع، ووصلت إلى حدود 65 دولارًا للبرميل، وظلت عند هذا المستوى لأكثر من شهر. وبدأت التقارير السنوية الصادرة عن المؤسسات الائتمانية العالمية في دعم التوقعات المستقبلية، حيث أشارت وكالة الطاقة الدولية إلى أن الاستهلاك العالمي سيزداد في الشهور المقبلة بمعدل يفوق 2 مليون برميل يوميًا حتى نهاية عام 2025، ما يستدعي رفع “أوبك” و”أوبك بلس” لسقف الإنتاج تدريجيًا وفقًا لمستويات الطلب المتزايد، وبدأت الأسعار بالفعل في التحسن.
لكن منذ أن صرحت الولايات المتحدة بتهديدات مباشرة لإيران، إذا ما فشلت مباحثات عمان في التوصل إلى اتفاق بشأن وقف تخصيب اليورانيوم، باتت الأمور تتجه نحو التصعيد. وخلال الأسابيع الماضية، زادت التعاقدات طويلة ومتوسطة الأجل بنسبة تجاوزت 30% مقارنة بالعام السابق، في دلالة على تنامي الطلب والثقة النسبية بالاستقرار.
غير أن التطورات انقلبت فجأة بعد أن شنت إسرائيل غزوًا على الأراضي والمنشآت النووية الإيرانية، أسفر عن مقتل العديد من قادة الحرس الثوري وأكثر من 9 علماء نوويين إيرانيين. وردت إيران بإطلاق صواريخ باليستية اخترقت منظومة الدفاع الإسرائيلية، وأصابت البنية التحتية والمطارات العسكرية في تل أبيب. ويبدو أن هذه الحرب قد تطول، وقد تلجأ إيران إلى استخدام العديد من السيناريوهات التي من شأنها عرقلة حركة ناقلات النفط والغاز الطبيعي في منطقة مضيق هرمز، الذي تسيطر عليه إيران وسلطنة عمان.
ويُعد مضيق هرمز شريانًا حيويًا لدول الخليج (السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، وإيران) في تصدير النفط والغاز المسال، حيث يمر عبره نحو ثلث صادرات العالم من الطاقة. وإذا ما أقدمت إيران على إغلاق المضيق – بحجة أن المدمرة البريطانية التي دخلت من المحيط الهندي إلى بحر العرب كانت تكشف وتحدد إحداثيات الصواريخ الباليستية التي أُطلقت على تل أبيب – فإن العالم سيواجه أزمة طاقة كبرى. وقد احتجزت القوات البحرية الإيرانية المدمرة البريطانية وأجبرتها على مغادرة المنطقة.
وفي تطور سريع، صرحت مصادر رسمية بإرسال تعزيزات بحرية بريطانية وفرنسية إلى بحر العرب، وقد تتدخل حاملة الطائرات الأمريكية الموجودة بالمحيط لتقترب من المضيق. هذا التصعيد قد يدفع إيران فعليًا إلى غلق المضيق، ما ستكون له تداعيات اقتصادية خطيرة، أبرزها:
• نقص في إمدادات سوق النفط العالمي بمقدار يصل إلى 35 مليون برميل يوميًا.
• تأثر أكثر من 126 مليون طن من الغاز المسال.
• ارتفاع أسعار النفط إلى ما يقارب 96 دولارًا للبرميل.
• زيادة تكاليف الشحن والتأمين البحري.
• انقطاع محتمل في إمدادات الكهرباء بعدد من دول الخليج.
وستكون هناك أزمة طاقة فعلية في دول آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند، التي تعتمد على استيراد أكثر من 50% من احتياجاتها من النفط والغاز عبر المضيق. كما ستتأثر الصين، التي تستورد نحو 40% من وارداتها النفطية من هذه المنطقة، خصوصًا من إيران. وقد تؤدي هذه التوترات إلى موجات بيع حادة في الأسواق العالمية نتيجة الذعر، وسيتسبب ذلك في تضخم عالمي نتيجة ارتفاع أسعار النقل والغذاء والسلع الصناعية.
ومن المؤكد أن هذا المشهد سينعكس مباشرة على الاقتصاد المصري، إذ سيزيد الضغط على الطلب على الدولار لتغطية احتياجات الاستيراد، كما سترتفع أسعار الطاقة محليًا، ما سيؤدي إلى سلسلة من الزيادات في تكاليف المعيشة والإنتاج.
إن التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والطمع والغطرسة الصهيونية المدعومة من الولايات المتحدة، تستدعي منا كمصريين أن نزيد من التركيز والإسراع في تنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة من شمس ورياح، بالإضافة إلى المحطات النووية، التي تمثل أدوات استراتيجية حاسمة في أوقات الأزمات. كذلك يجب تكثيف عمليات البحث والاستكشاف في الصحراء الغربية والشرقية، والتي تمثل كنز النفط المصري الذي لم يُكتشف بالكامل بعد، فضلًا عن مراجعة كل التكوينات الرسوبية في البحر المتوسط ودلتا النيل.
إن التغيير الحقيقي يبدأ من التقدير الواعي للمجهود والخبرة، واستثمار العقول والكفاءات البترولية المصرية التي تمثل طوق النجاة في أوقات الأزمات. ويجب أن تكون لدينا رؤية واضحة للاعتماد على قدراتنا الوطنية في زيادة الإنتاج وتقليل الاعتماد على الخارج.
… وللحديث بقية