رأي شخصي: التحليلات بعد انتهاء الخدمة وتغير الآراء بتغير المناصب

من أغرب مظاهر المشهد السياسي والإداري في مجتمعاتنا، أن نسمع صوت الحقيقة ، ولكن متأخرًا ، لا يصدر هذا الصوت من مراقب مستقل أو ناقد خارجي، بل من مسؤول سابق، كان يومًا ما في قلب السلطة، يملك القرار، ويستطيع التغيير، لكنه لم يفعل. ثم، بعد تقاعده أو استبعاده، يتحول فجأة إلى منظر وناصح وناقد ببلاغة غير معهودة، يتحدث بحرية وكأنه لم يكن يومًا جزءًا من المشهد الذي ينتقده.
نرى وزراء ومسؤولين كبارًا، ما إن يترجلوا عن كراسيهم، حتى يتحولوا إلى رموز للحكمة والعقلانية. يكتبون المقالات، يظهرون في المقابلات، يشاركون في الندوات، ويقولون كل ما كانوا يجب أن يقولوه ويفعلوه عندما كانوا في موقع المسؤولية. فجأة، تصبح لديهم الجرأة على الاعتراف بالأخطاء، ويُسلطون الضوء على المشكلات الهيكلية، ويتحدثون عن غياب الكفاءة أو البيروقراطية أو غموض القرار. ولكن، ألم تكن هذه العلل موجودة حين كانوا في السلطة؟ ألم يكونوا شركاء صامتين أو فاعلين في استمرارها؟
هذا التناقض بين القول والفعل يخلق فجوة كبيرة في الثقة بين الناس والمؤسسات. فكيف يُعقل أن يُسكت ضمير المسؤول حين يكون على الكرسي، ثم يصحو بعد خروجه منه؟ ولماذا لا نسمع هذا الوضوح والصراحة إلا بعد التقاعد؟ البعض يُرحع ذلك إلى قيود المنصب، والبعض الآخر يبرر بالصراعات الداخلية، أو قلة الصلاحيات، لكن الحقيقة تبقى: من لا يملك الشجاعة على التغيير في وقت القرار، لا تهمنا حكمته بعد فوات الأوان.
والأغرب من التنظير المتأخر، هو حين يتحول المسؤول السابق إلى ناقد دائم لمن يخلفه. يُمطره بالنصائح، ويُشكك في قراراته، وينصّب نفسه وصيًا على المصلحة العامة. وهنا نطرح سؤالًا: لو كان النقد سهلاً والتنظير واضحًا، لماذا لم تطبّق ذلك بنفسك حين كنت تملك السلطة؟ من المثير للسخرية أن بعضهم ينتقد السياسات التي ساهم هو شخصيًا في صنعها أو سكت عنها حين كانت تُطبّق.
ما نحتاجه اليوم هو مسؤول شجاع وهو في موقعه، لا بعد خروجه منه. مسؤول يملك الجرأة على الاعتراف بالخطأ وهو في قلب المشهد، لا وهو على هامشه. نحتاج إلى ثقافة جديدة في الإدارة والقيادة، تقوم على المكاشفة والمحاسبة الذاتية، لا على ممارسة “الندم العلني” بعد المعاش.
إن ممارسة “التنظير بعد المعاش” ليست فقط نوعًا من النفاق السياسي، بل تُعد إهانة للوعي الجمعي، واستهانة بذاكرة الناس، الذين باتوا يدركون جيدًا أن الصوت الصادق لا ينتظر تقاعدًا ليُسمع، وأن الحكمة التي لا تُترجم إلى أفعال في حينها، تظل مجرد “كلام فارغ” مهما زخرفها المتقاعدون بكلامهم المعسول وحكاياتهم الوهمية وأوهامهم الغير موجودة سوى في خيالاتهم ،،والسلام.
#سقراط