منح مصر القوة والاستقلال والتحديث: 220 عامًا على حكم محمد علي باشا

منح مصر القوة والاستقلال والتحديث: 220 عامًا على حكم محمد علي باشا

فى عامنا هذا يكون قد مر ٢٢٠ عامًا على تولى محمد على باشا سدة الحكم فى مصر، ومثلت فترة حكمه مرحلة فارقة فى تاريخ مصر على أكثر من صعيد، وقد جاء على سدة الحكم فى ١٣ مايو ١٨٠٥ وظل فى الحكم من ١٨٠٥ إلى ١٨٤٨، أى على مدى ٤٣ عاما بعد أن بايعه أعيان البلاد وعلماؤها، وعلى رأسهم عمر مكرم، إثر ثورة الشعب على خورشيد باشا، واستطاع محمد على أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، وأسس جيشا مصريا خالصا وقويا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل فى تلك الفترة، وحين وصل لسدة الحكم وضع على قمة أولوياته اكتشاف منابع النيل وتأمينها بوضعها تحت السيطرة المصرية، وأقام تعليما حديثا وأرسل البعثات التعليمية، إلى جانب إنشاء المدارس العليا فى كل التخصصات، وإقامة المصانع التى تفى منتجاتها بسد احتياجات الدولة والجيش لتفادى الوقوع تحت رحمة الغرب.

وقد نجح فى تحويل مصر من ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية إلى قوة إقليمية، ودولة حديثة ذات حكم ذاتى، ولذا يصفه المؤرخون بأنه «مؤسس مصر الحديثة» بسبب إصلاحاته الطموحة وحملاته العسكرية التى أعادت تشكيل المشهد السياسى والعسكرى والاقتصادى والاجتماعى فى البلاد، ومن ثم تحالفت الدول الأوروبية لوقف التقدم المصرى والقضاء عليه لحماية التوازن فى القارة الأوروبية.

وهناك الكثير من الكتب التى وثقت لسيرة محمد على باشا وفترة حكمه، ومن بينها كتب حرصت على الحياد فى التوثيق بما له وما عليه، وهذه التجربة تناولها كثير من الأبحاث والدراسات الأكاديمية والكتابات التاريخية من حيث صعودها وانهيارها، بهدف استعادة الخبرات والدروس المستمدة من تلك الحقبة المهمة فى تاريخ مصر والشرق، وسعيا وراء استلهام عناصر قوتها وتجاوز نقاط ضعفها. من خلال السطور نحتفل بباعث النهضة المصرية محمد على، الرجل الذى زلزل الأرض تحت أقدام أوروبا وتحالفت للقضاء عليه.

غلاف الكتاب

ومحمد على مولود بمدينة قولة، فى عام ١٧٦٩، وهى مدينة ساحلية تقع الآن باليونان، ولكن السؤال الذى اختلف حوله الكثيرون، هل كان محمد على كرديا أم تركيا أم ألبانياً؟، نجد الكاتب عباس محمود العقاد والكاتب الكردى محمد على الصويركى، أكدا أن أصل أبيه من الأكراد من يار بكر، ولكن المؤرخ المصرى محمد شفيق غربال، فى كتابه «محمد على الكبير»، ذكر نصاً: «هو تركى عثمانى مسلم، لا يمت للألبانيين ولا لصقالية مقدونيا ويونانها بسبب ولا نسب». أما عن سيرة ذلك العبقرى كما أرخها لنا المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من كتابه «تأريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر» أن أباه إبراهيم آغا كان على رأس كتيبة من رجال الحفظ فى المدينة، وكان له سبعة عشر ولدا لم يعيش منهم سوى محمد على وأنه مات وابنه لايزال صغيرا، فكفله عمه طوسون أغا ثم قتل، ثم نشأ فى كنف حاكم قولة الشوربجى. وعمل بتجارة الدخان، ثم انتظم فى سلك العسكرية وبلغ رتبة اليوزباشى. فى عام ١٨٠١، تحوّلت حظوظ محمد على بشكل كبير، عندما انضم إلى القوة العسكرية العثمانية المُرسلة لإعادة احتلال مصر بعد انسحاب نابليون. كانت مصر آنذاك جزءًا حيويًا من الإمبراطورية العثمانية، بعد جلاء الاحتلال الفرنسى تزعزع استقرار البلاد بشدة وضعفت النخبة المملوكية الحاكمة. وتنافست على السلطة فى البلاد كل من المماليك والقوات العثمانية والزعماء المحليين. واستغل محمد على هذه الفترة الفوضوية لبناء سمعته وسلطته.

غلاف الكتاب

نجح محمد على فى المناورة بذكاء بين مختلف الفصائل. وعمل عن كثب مع كل من العثمانيين والمماليك، ضامنًا ولاء قواته ودعم المصريين المحليين، بمن فيهم العلماء المؤثرون وغيرهم من قادة المجتمع. وفى عام ١٨٠٥، وبعد سنوات من الاضطرابات والصراعات الداخلية، دعت مجموعة من المصريين البارزين، بمن فيهم العلماء، السلطات العثمانية إلى استبدال والى مصر أحمد خورشيد باشا بمحمد على، وعُيّن محمد على رسميًا واليًا على مصر وبايعه أعيان الشعب فى دار المحكمة ليكون واليًا على مصر فى ١٧ مايو سنة ١٨٠٥، والذى أقره فيها الفرمان السلطانى الصادر فى ٩ يوليو من نفس العام.

بعد توليه السلطة، كان التحدى الأبرز الذى واجهه محمد على كما ذكرت العديد من المراجع ومنها فى الجزء الأول من كتاب «مصر فى مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١» لـ محمد فؤاد شكرى، هو طبقة عسكرية وهى المماليك. ففى عام ١٨١١، دعا قادة المماليك إلى احتفال فى القلعة، ونصبت قواته كمينًا للمماليك، وقضى على ٤٧٥ مملوكاً بالرصاص فيما يقرب من ١٥ دقيقة، عُرفت تاريخيا بمذبحة قلعة. وبعد القضاء على قيادتهم، أرسل محمد على جيشه عبر مصر للقضاء على ما تبقى من قوات المماليك. وقد عززت هذه الخطوة الحاسمة سيطرته على البلاد. بدأ محمد على التركيز على ترسيخ سلطته وتحديث مصر. وكان هدفه الأسمى إنشاء سلالة حاكمة مستقلة وراثية فى مصر، منفصلة عن الحكم العثمانى. ولتحقيق ذلك، نفّذ إصلاحات شاملة فى الجيش والاقتصاد وإدارة البلاد.

فى نظرة سريعة على مصر فى عهد محمد على، نجدها دولة حديثة فى أبهى صورها، فقد أصبحت المؤسسة العسكرية بمفهومها الحديث، فقد احتل بناء الجيش والأسطول مكانة متميزة فى مشروع محمد على وشكلا عنصرا أساسياً ارتكزت عليه دولته ومشروعه الاستقلالى، فكل مشروعات دولة محمد على تمحورت وارتبطت بعملية بناء الجيش والأسطول. كما أعاد هيكلة الاقتصاد المصرى وإصلاحه وتوسيعه لإحداث طفرة فى النمو الاقتصادى ولإحكام سيطرة الدولة على فائض العمل الاجتماعى لتوفير الموارد اللازمة لتحقيق طموحاته. أرسى محمد على الأساس المتين لمصر الحديثة، معتمدا على التعليم كنقطة بداية وجهوده فى بناء مؤسسات التعليم الحديث، لم يتوقف أثر جهوده عند مجرد توفير الخبراء والفنيين والإداريين الذين احتاجتهم مشروعات الدولة ومؤسساتها، ولكن امتد بإيفاد البعثات. رغم ميل محمد على الحكم المطلق، الحق أن الفضل يعزى إلى محمد على فى التطوير والتحديث الإدارى والسياسى والقضائى للدولة المصرية والذى مازالت بعض أسسه قائمة إلى الآن. يمكننا قراءة وضع وحالة مصر قبل محمد على من خلال ما سجله الجبرتى فى كتاباته، لندرك حجم الجهد والأثر الذى أحدثته مجمل إصلاحات محمد على وما أحدثه من نهضة عمرانية وثقافية، وما أسهم به فى نشر التحضر والعمران فى أرجاء المجتمع المصرى.

كما يعزى إلى الدور الذى لعبته الإصلاحات الإدارية، وبناء الجيش الحديث الذى اعتمد على التجنيد الإجبارى لكل المصريين بمختلف طوائفهم ودياناتهم والفتوحات العسكرية، وخاصة فى الشام والانتصارات المتتالية للجيش المصرى على الجيش العثمانى فى «نمو الوعى القومى» و«تبلور البذور الجينية لفكرة المواطنة»، هذا ما أكدته كتابات الجبرتى ورفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وغيرهم من كتاب ذلك العصر. فما تحقق على كافة المستويات يعد أمرا استثنائيا فى التاريح المصرى الحديث.

تعد الجهود التى قام بها محمد على فى بناء دولته بمثابة نقطة البدء فى وضع قواعد الدولة المصرية الحديثة وأسسها، التى تم فيها الانتقال بمصر فى بضع سنوات إلى دولة شكلت تحديا للقوى الكبرى فى ذلك الوقت، وهو التحدى الذى فرض على تلك القوى التصدى بحسم لنجاحات التجربة المصرية والصدام معها والسعى لإجهاضها والتآمر عليها، وهو ما جسدته تسوية لندن ١٨٤٠-١٨٤١، التى فرضها التحالف الأوروبى، بقيادة إنجلترا على محمد على باشا، وذلك لكبح جماح تلك القوة الناهضة التى كانت تمتلك مقومات النمو والازدهار، والتى شكلت سندا قويا للنزعات الاستقلالية التى برزت لدى محمد على باشا فى ذلك الوقت. ولقد أدى هذا الصدام عملياً إلى ضرب محاولة بناء اقتصاد مستقل يرتكز على بناء صناعى فى إطار السوق الرأسمالية العالمية. وهنا تطرح العديد من التساؤلات المستقبلية حول كيفية صياغة علاقات مجتمعاتنا بالدول الكبرى المتقدمة فى ظل نظام لتقسيم العمل الدولى، دائم التطور والتغير، لكنه أصبح تعقيدا وإجحافا، وأصبحت تعاد فيه صياغة مفاهيم الاستقلال والسيادة والوطنية، وهى القضية التى يزيدها تعقيدا عدم توفر الفرصة التى أتيحت لـ محمد على، وربما لا تتوفر الآن لمعظم بلدان العالم، ومن أهم تلك الكتب التى تناولت طرح تلك الرؤى كتاب «تحديث مصر فى عصر محمد على» وأعده للنشر المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق ومحسن يوسف، وتقديم الدكتور إسماعيل سراج الدين، والذى تضمن أعمال مؤتمر عقد فى مكتبة الاسكندرية. تناول هذا الكتاب صياغة للأفكار والرؤى لنخبة من المفكرين والاكاديميين المصريين مناقشة التجربة التى تمت فى عصره وفحصها، لاستعادة الخبرات والدروس المستمدة من تلك الحقبة الهامة فى تاريخ مصر والشرق، سعيا وراء استلهام عناصر قوتها وتجاوز نقاط ضعفها.

وأكدوا هذا، ولا تزال تجربة محمد على باشا إلى الآن تشير بكل ملابساتها وسياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية إلى القوى الكامنة داخل القوى الأمة المصرية والقادرة فى حالة تعبئتها وإدارتها بشكل رشيد على أن تصل بالمصريين إلى طموحاتهم، وهى تجربة لا تزال تؤكد على أهمية دور الدولة فى حماية مشروع النهضة، وتوفير المناخ لنجاحه، كما أن انهيار التجربة تحت ضغوط التدخل الأجنبى يشير إلى عوامل الضعف الداخلية، التى لا تزال بعضها رغم مرور أكثر من قرنين يشكل جزءا من ثقافتنا وتراثنا السياسى والاجتماعى، والتى يجب على جميع المصريين حاليا الوعى بها بشكل جدى من أجل سرعة التخلص منها، بعد أن تغيرت صورة العالم كلية، بحيث لم تعد الغلبة فيه فقط لمن يملك القوة، ولكن لمن يملك العلم والمعرفة والقدرة على توظيفها لتحقيق النمو المطلوب.