«أخبرت الأم: كنا نملك ستة أبناء، لماذا أصبحوا اثنين؟».. مأساة أب فقد أربعة من أولاده في حريق «عمارة الدرب الأحمر»

لم يكن المنزل في «درب الحلوات» بمنطفة الدرب الأحمر في القاهرة كما كان.. النوافذ خُلعت من مكانها، وانحنت أبواب الحديد كأنها اشتبكت مع موجة لهب لم ترحم.. اسوّدت الجدران، وارتسم على سقفها خطوطٌ محروقة تشبه آثار أصابع اللهب، أما البلاط فغمرته المياه الممزوجة بالرماد، بينما تناثرت بقايا أنابيب غاز مكسورة، وخزائن ذائبة، وذكريات محترقة بالممر الضيق المؤدي إلى الطابق الأرضي.
في تمام الساعة العاشرة من مساء الجمعة الماضى، دوّى انفجار داخل أحد المنازل القديمة في درب الحلوات.. كان الصوت مخيفًا لأهالى الحي المزدحم بالحرفيين وورش النجارة، وفي دقائق قليلة، تحوّل «العقار رقم 6» إلى كتلة من اللهب، لهيبٌ خرج من نوافذ الشقة الأرضية، صاعدًا إلى السطح عبر «منور» ضيق، ليلتهم 3 شقق متتابعة، ويحوّل البيت الكائن على مساحة 50 مترًا إلى مأتم.
عائلة بأكملها فقدت 4 من أطفالها، وأُصيب اثنان آخران، بينهم الأم وشقيقة الضحايا، بينما ظل الجيران يرددون أن «الأنبوبة كانت بايظة»، وأن ما بدأ كخلاف عائلي انتهى بكارثة.. «محمود»، زوج ابنة عم «جمعة»، رب الأسرة المنكوبة، صار اسمه على لسان الجميع، بعد أن ألقى القبض عليه بتهمة التسبب في الحريق.
«كأن البيت صرخ فجأة».. هكذا وصف محمد محمود، سائق «توك توك»، أحد سكان الطابق الثاني، اللحظة التي قلبت الحارة الضيقة إلى جحيم.
كان البيت، كما يقول لـ«المصري اليوم»: «دايمًا باين عليه التآكل.. متكّئ على نفسه كده ومستحملنا»، لكنه في تلك الليلة بدا وكأنه قرر ألا يحتمل أكثر: دوّى، ونار تطلع كوحش من تحت وتوصل لفوق، شبابيك تضرب الحيطان وتطير، ولهيب يحاصر كل شىء».
الشقة في الطابق الأرضي، حيث كان يعيش عم «جمعة»، بدت كأنها مشهد مقتطع من فيلم قديم (جدران سوداء، أنابيب مكسورة، ورائحة الدخان تخنق الجميع) منذ تلك الليلة، خفتت الأصوات في الحارة، وضحكات الشبابيك اختفت.. صارت النوافذ مغلقة على صمت ثقيل، كأن البيت يشارك في الحداد.
أنبوبة بوتاجاز حوّلت العقار إلى كتلة رماد
تلك الليلة، عاد «محمد» من عمله على «التوك توك»، جلس يطمئن على أبنائه قبل الامتحانات، ثم بدأ يسمع الصراخ، كانت هناك مشاجرة في الأسفل، يروى أن «محمود» زوج «خلود»، كان يتشاجر معها بشأن أنبوبة الغاز، حيث كان بلا عمل ولا مال؛ فطلب الأنبوبة رغم تحذيرات حماته بأنها تُسرّب.. بعد دقائق، جاء الانفجار ثم اندلع الحريق.
ما ظهر كمشاجرة زوجية عابرة على أنبوبة، تحوّل إلى واحدة من أبشع الحرائق في قلب المنطقة الشعبية، هكذا يصف الأهالى.. في البداية مات «سيد»، أصغر الأبناء، 11 سنة، ثم لحق به «عبدالرحمن»، 18 سنة، ثم «محمد»، ثم «رضوى» في اليوم الرابع.
حريق عقار الدرب الأحمر- تصوير: محمد القماش
«كل يوم جنازة.. وكل يوم ندفن في أسيوط.. والسواق هو نفسه كل مرة».. عبارة قالها عم «جمعة»، والد الأطفال، بصوت مشروخ كأنه يخرج من بين الحجارة.
كان قد خرج يومها ليشترى خبزًا، ثم عاد ليجد أبناءه يُحملون واحدًا تلو الآخر.. ابنته ملك ما زالت في المستشفى، وزوجته ترقد على سريرها لا تعرف أن أولادها قد ماتوا.
ظل يتساءل بصوت لا يكاد يُسمع: «أقول لها إزاى؟.. أقول لها كان عندنا ستة بقوا اتنين؟»، ثم أنهى المكالمة الهاتفية مع «المصري اليوم» قبل أن يدخل في نوبة بكاء.. أما «محمد»، الذي لم يفقد أحدًا من أسرته، فكان يرى نفسه مكسورًا بدوره: «كنت ساكن بإيجار قديم بـ60 جنيها، ورثته عن أبويا، والنهارده بقيت في الشارع».
«الأنبوبة طارت من تحت لفوق وهى والعة»، هكذا وصف المشهد. «الطوب نزل علينا وإحنا بنجرى، والشارع كله كان شايف اللهيب».
في الورشة المجاورة، كان هشام عبدالمنعم، صاحب ورشة النجارة، يروي أنه شعر كأن «شبورة نار انفجرت في وشى»، بينما كانت رائحة الغاز والحريق تملأ صدره، والنار تلتهم كل شىء.
حريق عقار الدرب الأحمر- تصوير: محمد القماش
التحقيقات مستمرة
رجال الإطفاء اضطروا لمد الخراطيم من مسافة بعيدة، فالحارة لا تسمح حتى بدخول سيارة.. «خلود» الزوجة، كانت عند باب الشقة تتحدث مع زوجها عندما اشتعل كل شىء، نجت هي وزوجها وابنة عمتها، لكن والدتها، التي هرعت لإنقاذ أولادها، سقط عليها باب حديدى مشتعل.
نجت أيضًا، لكنها مصابة بحروق شديدة، واليوم ترقد في المستشفى دون أن تعلم أن 4 من أولادها لم يعودوا في الدنيا. «ملك»، الأخت الوسطى، مازالت في العناية المركزة.
حريق عقار الدرب الأحمر- تصوير: محمد القماش
التحقيقات، بحسب روايات الجيران، أثبتت أن «محمود» جاء ليأخذ الأنبوبة رغم تحذيرات حماته من تسريب الغاز، وعندما انفجرت، لم يبق شىء (الخشب، الحديد، الأرواح.. كلها أكلتها النار).
قوات الحماية المدنية عاينت العقار، ووثقت أن الجدران كانت متساقطة، والحديد مكشوف، والطوب محطم، والأثاث محترق تمامًا، وأمرت النيابة العامة بحبسه، والتحقيقات لا تزال مستمرة.