«العالم الداخلي».. تجربة فنية ذات طابع صوفي لاستكشاف الذات

«العالم الداخلي».. تجربة فنية ذات طابع صوفي لاستكشاف الذات

احتضنت قاعة «بيكاسو» فى الزمالك المعرض الأحدث للفنانة التشكيلية دينا فاضل، وهو المعرض التاسع فى مسيرتها، ويحمل عنوان «الكون بداخلك». ويشى هذا العنوان بالمحتوى العام لأعمال المعرض، والتى جسدت فيه دينا هذا الملمح الصوفى السائد والحاضر بقوة فى أعمال المعرض، كما نقف فى بعض الأعمال على طاقة داخلية شديدة الكثافة، وعناق بين الضوء والعتمة، بين الجسد الكونى والروحى. فنجد فى عمل من هذه الأعمال جسدًا أنثويًا كونيًا، مُلتفًا باللون الأزرق النيلى المتحرك كدوّامة كونية، كأنها امرأة تتكوّن من مجرّات، والذهب المتناثر فيها يوحى بقداسة أو بأثر إلهى.

وفى أعمال أخرى نقف على تجلٍّ للنور: شكل يشبه الهالة أو الطيف، وكأنه جسد يتصاعد من العتمة نحو النور، أو بالعكس، جسد يذوب فى الضياء عبر سردية تشكيلية فلسفية عن التحوّل، وعن الأنوثة الكونية، وربما الذوبان فى المطلق.

كما فاضت أعمال المعرض بالحركة والضوء، كما أننا نكاد نسمع إيقاعات الذكر الصوفية.

والأعمال تفيض بمعانٍ متراوحة مع حضور للملمح الروحى والفلسفى والصوفى، فهى إما تحكى قصصًا، أو تعبّر عن رؤًى فلسفية، كما أنها توقظ شيئًا دفينًا فينا، وفق تعبير الفنانة دينا، والتى أضافت قائلة:

«حين أتخلى عن خططى الجامدة، وأفتح نفسى للتدفّق الإلهى العجيب، تكون النتيجة أبعد بكثير من حدود خيالى المحدود. وهذا المفهوم مستلهم من الفلسفة الصوفية، التى ترى أننا نحمل فى داخلنا كل ذرة من هذا الكون. نحن انعكاس للنجوم، والمحيطات، والجبال، والفضاء اللامتناهى. لقد خلقنا الله بطريقة تفوق الإدراك، ولو أدركنا حقًا ماهيتنا وممّ صُنعنا، لتغيّر سلوكنا جذريًا. نحن كائنات خُلقت من قوة ومحبة».

وقالت دينا لـ«المصرى اليوم»: «تنبع ثيمة هذا المعرض من ذلك الإدراك الصوفى العميق بأن الكون كلّه يسكن داخلنا. ومع التأمل العميق، يتجلّى أن هذه الحقيقة لا تنتمى حصريًّا إلى التصوّف، بل هى الحقيقة بعينها، كما قال كارل ساجان: ‹الكون بداخلنا. نحن مصنوعون من غبار النجوم. نحن وسيلة الكون كى يعرف نفسه›.

خلقنا الله فى أوسع وأعقد صورة يمكن تصوّرها. وقد بلغ المتصوفة، كالإمام الغزالى وابن عربى، هذه الحقيقة لا عن طريق التنظير، بل عبر عروجٍ روحى عميق. فهى ليست فلسفةً حكرًا على مسلكٍ بعينه، بل تذكرة بماهيتنا وجوهر وجودنا.

ووفق ما قاله كارل ساجان:

‹جزء من كياننا يعرف أننا جئنا من هناك. نحن نشتاق للعودة. ويمكننا ذلك، لأن الكون يسكننا أيضًا›.

ومع ذلك، فإن إلهامى الشخصى بدأ من الطريق الصوفى. كانت المرة الأولى التى قرأت فيها كتابًا صوفيًا لحظةً فارقة؛ شيء ما بداخلى اهتزّ، كما لو كان نبضًا يتذكّر. شعرت أننى لا أكتشف، بل أسترجع، وكأننى أسمع صدى حديثٍ قديم، حميم، عبر العصور، روحًا إلى روح. وتحضرنى هنا مقولة الإمام الغزالى:

‹اعلم أن الإنسان مختصر العالم، وفيه أثر من كل صورة فى العالم. فعظامه كأنها الجبال، ولحمه كالغبار، وشعره كالنبات، ورأسه كالسماء، وحواسّه كالنجوم›».

تحاول لوحات هذا المعرض أن تُجسِّد هذا الجوهر فى هيئةٍ تجريدية، عبر عناصر كونية، وضربات فرشاة واسعة تستحضر مجرّات، وومضات بيضاء توحى بالنجوم.

أما الأعمال الأخرى، فتحمل ألوانًا أرضية غنية، تنبض بالتراث، والرموز القديمة، وحكمة المصريين القدماء، وبصمات المعابد. فنحن لا نحمل فينا عناصر الطبيعة فحسب، بل نحمل أيضًا قصص الحضارات، وطاقاتها، وأحلامها. إنّنا نحمل فى حمضنا الوراثى ذاكرة كل ما مضى، سواء كنا واعين بذلك أم لا، فهى تسكننا، وتعبّر عن نفسها بأشكال شتى.

بقى القول إن الفنانة التشكيلية دينا فاضل حصلت على جوائز عدّة فى مجالى الفن والتصميم، كان أولها فى مسابقة رسم حين كانت فى الثالثة من عمرها. وُلدت ونشأت فى المملكة المتحدة، وعاشت عدة سنوات فى قطر، ثم استقرّت فى مصر منذ أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها.

أقامت عدة معارض فردية تجسّد رحلة من الفوضى إلى الحب. كما شاركت فى معارض جماعية على المستويين المحلى والدولى، من بينها: معرض لوكسمبورج، وإسبانيا، ومصر، والمملكة المتحدة، وكندا، والولايات المتحدة. وقد عُرضت أعمالها فى دبى ٢٠٢٠. كما تتابع دينا دراستها الفنية بجامعة الفنون بلندن، وتسير فى رحلة مستمرة من تنمية الروح، باحثة عن غايتها.

هى أيضًا مؤلفة كتاب «عندما تستيقظ الطبيعة»، وهو مجموعة من الاقتباسات والقصص القصيرة والقصائد والأعمال الفنية.