«التنويري شهيد الفكر».. 33 عاماً على فقدان المفكر الدكتور فرج فودة

«التنويري شهيد الفكر».. 33 عاماً على فقدان المفكر الدكتور فرج فودة

٣٣ عامًا مرت على رحيله، حيث اغتيل في ٨ يونيو ١٩٩٢، على يد خفافيش الظلام. هو الكاتب والمفكر والباحث المصرى دكتور فرج فودة، والذى كان من أبرز المدافعين عن العلمانية في مصر.. ومن أقوى المنادين بالدولة المدنية، والفصل بين الدين والسياسة. يصفه معاصروه بأنه أحد أهم رموز الوحدة الوطنية، رافعا شعار «الدين لله والوطن للجميع»، لذلك طالته الاتهامات والتكفير، فاغتالته رصاصات الغدر والجهل، رصاصات كشفت عن عقول من حرضوا على قتل رجل كان ملء السمع والبصر، اعتبروه حجر عثرة في طريق جماعات الإسلام السياسى.

لايزال حضور الظلامين وأفكارهم مستمرًا إلى يومنا هذا، صحيح أن الدولة قطعت شوطاً طويلاً في مواجهة تلك الجماعات، إلا أن أفكارها ماتزال تخرج علينا بين الحين والآخر ولو بأشكال وألوان مختلفة، مستغلين بعض الأحداث والحوادث، سواء المحلية أو العربية، ليدسوا أفكارهم بهدف تهييج مشاعر الشعب، وخاصة العامة منهم. هناك مَن رفعت الجماعات ضدهم قضايا تكفير مثل سيد القمنى وسعيد العشماوى ونوال السعداوى.. وغيرهم. وهناك كذلك محاولة التفريق بين الدكتور نصر حامد أبوزيد وزوجته، ومنهم مَن حاولوا قتله مثل نجيب محفوظ.

صدر للكاتب فرج فودة عدة كتب فكرية تدور حول العلاقة بين الدين والسياسة متناولًا مفاهيم حديثة مثل العلمانية والديمقراطية وغيرهما من المفاهيم، من أبرزها: الحقيقة الغائبة، زواج المتعة، حوارات حول الشريعة، الطائفية إلى أين؟، الملعوب، نكون أو لا نكون، الوفد والمستقبل، حتى لا يكون كلاما في الهواء، النذير، الإرهاب، حوار حول العلمانية، قبل السقوط. رصد في كتبه ظواهر التطرف وما وراء فعل التطرف من أفكار متطرفة، وما وراء الأفكار المتطرفة من رجال دين ومؤسسات دينية وسياسية وما وراء ذلك كله من تنظيمات عالمية ممولة ومخططة. كما كشف خباياهم المستورة وقبحهم الحقيقى وعدائهم للوطن وللدين.

غلاف الكتاب

وفى جولة لعالم «فودة» الفكرى وآرائه، ففى كتابه «الحقيقة الغائبة» الذي يعد من أشهر كتبه على الإطلاق، وصدر عام ١٩٨٨ ويقدم فيه «فودة» رؤية فكرية وسياسية ضد جماعات الإسلام السياسى، وإعادة تفسير بعض من المفاهيم المغلوطة التي يقدمونها عن الدين الإسلامى، فهو دين سماحة وحوار وليس عنف وديكتاتورية. رؤية فكرية وسياسية تستند إلى حقائق التاريخ موثقة ومؤصلة، يأتى جهد المفكر فرج فودة رداً على أولئك الذين يهربون من التوثيق والتأصيل، حتى يقولوا بالتاريخ ما لم يقله، وحتى يستعينوا باللاعلمية في تناول التاريخ لإسناد ما يريدون هم أن يقولوه، وفوق كل شىء، الكتاب إسهام في تبرئة الإسلام ممن يحاولون استخدامه سياسيا لخدمة أهداف سياسية هي في التحليل النهائى معاكسة لروح الإسلام وجوهره: فالإسلام يحفز إلى التقدم، وهؤلاء يدعون إلى التخلف والإسلام دين سماحة، وهؤلاء دعاة تعصب، الإسلام يكرس الحوار والشورى، وهؤلاء يريدون فرض آرائهم بالإكراه والعنف.. وسيظل الإنسان هو الإنسان لا عاصم له من خطئه، إلا أن يسمع بجدية وتنزه رأى الآخرين فيه.

غلاف الكتاب

ومن كتب فرج فودة التي أثارت ضجة وجدلا كبيرا، كتاب «نكون أو لا نكون» والذى نشره في عام ١٩٩٠، والذى ضم عدة مقالات بعضها رفض نشره، وأمر الأزهر وقتئذ بمصادرة الكتاب بعد طبعه.

وحول المناظرة التي تسببت في اغتيال المفكر الكبير فقد دارت حول الشريعة والحاكمية في معرض الكتاب الدولى ضمن سلسلة من المناظرات على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب في ٧ يناير ١٩٩٢ تحت عنوان: «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، وسط حشود جاوزت ٢٠ ألفا من الرجال والنساء والشباب، والتى ترتب على إثرها تكفير فودة لمواقفه. وقف فيها فرج فودة ومحمد خلف الله، أحد أعضاء حزب التجمع، على طرف، ومحمد الغزالى ومحمد عمارة ومأمون الهضيبى على الطرف الآخر.. بدأت المناظرة وكانت الصيحات تتعالى والصرخات تشتد والحناجر تزأر، وتخيف كل من يعترض على أحاديث الغزالى والهضيبى بهتافات: (الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا). ثم تكلم كل من الفريقين حول الحكم والتاريخ الإسلامى وجدوى العلمنة تاريخًا وحاضرًا في العالم العربى، ثم انتهت المناظرة بسلام، بيد أن هذه النهاية كانت شرارة الانطلاق لنهاية فودة!.

ووصلت الرحلة إلى المحطة الأهم في الثالث من يونيو ١٩٩٢، حين نشرت جريدة النور الإسلامية التي كان بينها، وبين فرج فودة قضية سب وقذف، بيانا من ندوة علماء الأزهر موقع من عدد من كبار الدعاة الإسلاميين، يكفر فرج فودة ويدعو لجنة شؤون الأحزاب لعدم الموافقة على إنشاء حزبه (المستقبل). وفى ٣ يونيو ١٩٩٢ أصدرت جبهة علماء الأزهر، فتوى بتكفيره، وبعد خمسة أيام في ٨ يونيو ١٩٩٢ وقبيل عيد الأضحى نفذت «الجماعة الإسلامية» اغتيال فودة.. عند خروجه من مكتبه، متجهاً نحو سيارته أمام جمعية التنوير المصرى، التي كان يرأسها بمدينة نصر، وكان عن يمينه ابنه «أحمد»، وعن يساره صديقه «وحيد»، تلقى رصاصات برشاش آلى قام عبدالشافى رمضان، أحد الشباب الرافض لأفكار فودة وآرائه حول الدين، بإطلاق النيران تجاه صدر فودة. رصاصات كانت كافية لإزهاق روحه، وكفيلة بإصدار حكم الإعدام على عبدالشافى بعد مناقشات طويلة عقدتها المحكمة وطالت الاستجوابات عددًا من المفكرين وعلماء الأزهر، على رأسهم الشيخ محمد الغزالى.

هزّ خبر اغتيال فرج فودة مصر بأكملها، المثقفين والمفكرين التنويريين، تحديدًا عادل إمام، حيث كان يعتبره رمزا تنويريا كبيرا، وكان صديقه الأقرب في الوسط الفنى، لذا كان عادل إمام أول الحاضرين في المستشفى مع فرج فودة. نزف فرج كثيرا وفقد الكثير من دمائه، وطلب الأطباء كميات كبيرة من الدم له، وعلى الفور أبدى عادل إمام وكان معه عادل حمودة استعدادهما للتبرع، وفى محاولة لإنقاذ فودة من الموت، ولم تفلح محاولات الإنقاذ، لكن يشاء القدر أن يبلغه الدكتور نقيب الأطباء السابق، الدكتور حمدى السيد، المسؤول عن حالته، بوفاة المفكر فرج فودة، ليبكى الزعيم عادل إمام قائلا: «لقد قتلوا مفكرًا إسلاميًا»، نجح في كشف وفضح التيارات الأصولية المتطرفة ودعاه الانغلاق والرجعية، وكان سابقًا لعصره. وتوقع ما يمكن أن تفعله بمصر والمنطقة، ولذلك قتلوه بعدما رأوا أنه سيكون خطرا عليهم وعلى أفكارهم.

فرج فودة كاتب ومفكر مصرى، ولد في ٢٠ أغسطس ١٩٤٥ ببلدة الزرقا في محافظة دمياط بمصر. وحصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد الزراعى بيونيو ١٩٦٧ من جامعة عين شمس، وفى الشهر نفسه، استشهد شقيقه الملازم محيى الدين فودة، والذى كان يصغره بعام واحد في حرب ٥ يونيو ١٩٦٧، ونال الدكتوراة في الفلسفة في الاقتصاد الزراعى من جامعة عين شمس، ولديه ولدان وبنتان. كانت له كتابات في مجلة أكتوبر وجريدة الأحرار المصريتين.

وأثارت كتابات د. فرج فودة جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين. شارك في تأسيس حزب الوفد الجديد، ثم استقال منه، وذلك لرفضه تحالف الحزب مع جماعة الإخوان المسلمين لخوض انتخابات مجلس الشعب المصرى عام ١٩٨٤، ثم حاول تأسيس حزب باسم «حزب المستقبل»، وكان ينتظر الموافقة من لجنة شؤون الأحزاب التابعة لمجلس الشورى المصرى. ووقتها كانت جبهة علماء الأزهر تشن هجوما كبيرا عليه، وطالبت تلك اللجنة لجنة شؤون الأحزاب بعدم الترخيص لحزبه، بل وأصدرت تلك الجبهة في ١٩٩٢ بـ«جريدة النور» بياناً بـ«تكفير» الكاتب المصرى فرج فودة ووجوب قتله. أسس فرج فودة الجمعية المصرية للتنوير في شارع أسماء فهمى بمدينة نصر، وهى التي اغتيل أمامها. ولاتزال الحرب مستمرة سجالًا بين الطرفين طيور الظلام والتنويريين.