د. مينا بديع عبد الملك يكتب عن مراد كامل وعمله المتميز “حضارة مصر في الحقبة القبطية”

فى عام ١٩٦٠ سجل د. مراد كامل (١٩٠٧ – ١٩٧٥) كتابه الرائع «حضارة مصر فى العصر القبطى»، والذى يقع فى ٢٤٠ صفحة من القطع المتوسط، والذى اهتمت جمعية التوفيق القبطية بالقاهرة بنشره على نفقتها الخاصة.
والدكتور مراد كامل عاش طوال حياته مُكرساً للعلم والخدمة. تدرج فى مراحل التعليم المختلفة، فحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية واللغات الشرقية من كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) فى يونيو ١٩٣٠، ثم سافر إلى ألمانيا، حيث حصل على دبلوم فى اللغة اللاتينية وآدابها من جامعة برلين فى يونيو ١٩٣٤، وفى نفس العام فى شهر أكتوبر حصل على دبلوم فى اللغة اليونانية وآدابها من ذات الجامعة. وفى دراسته لدرجة الدكتوراة تتلمــذ على يد الأستـاذ «إنو ليتمان» فحصـل على درجة الدكتوراة من جامعة «توبنجن» فى ديسمبر ١٩٣٥، ثم دكتوراة الأستاذية من نفس الجامعة فى نوفمبر ١٩٣٨.
ثم عاد إلى القاهرة، حيث عمل بكلية الآداب جامعة القاهرة وتدرج فى وظائفها حتى أصبح أستاذاً، ثم رئيساً لقسم اللغات السامية بها عام ١٩٥٠. عمل على إنشاء مدرسة الألسن بالقاهرة، وعُين مديراً لها طوال الفترة (١٩٥٢ – ١٩٥٩)، كما شغل وظيفة أستاذ بالكلية الإكليريكية لتدريس اللغات عام ١٩٥٣، كما شغل وظيفة وكيل معهد الدراسات القبطية بالقاهرة ورئيس قسم اللغات السامية به عام ١٩٥٥.
مراد كامل
وكان أيضاً وكيلاً لجمعية الآثار القبطية بالقاهرة. والحقيقة أن مراد كامل عبقرية نادرة قلما يوجد نظيرها فى إجادة اللغات، حتى إنه عند وفاته نعاه رجل الآثار والصحفى القدير الأستاذ كمال الملاخ (١٩١٨- ١٩٨٧) فى عدد جريدة الأهرام، الصادر يوم الجمعة ١٧ يناير ١٩٧٥، بعبارات رثاء رائعة وصادقة جاء فيها «فقدت مصر أمس عالما كبيرا من علمائها هو د. مراد كامل، عضو المجمع اللغوى، والوحيد فى الشرق العربى الذى يجيد ٤٠ لغة: بينها الأمهرية وهو أحد خبرائها العالميين». عُين عضواً بالمجمع العلمى المصرى فى القاهرة عام ١٩٥٠، وعضواً بمعهد الدراسات الشرقية بالإسكندرية عام ١٩٥٣، وعضواً بالجمعية الدولية لعلوم دراسة الأسماء بمدينة «لوفن» ببلجيكا عام ١٩٥٥، وعضواً بالأكاديمية الألمانية للآثار ببرلين عام ١٩٥٩، وعضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام ١٩٦١.
كما اخُتير عضواً فى هيئة الترشيح لجائزة «نوبل» فى تاريخ الآداب واللغة. أسس جمعية للمستشرقين العرب فى ألمانيا لخدمة العرب والقضية الفلسطينية، وامتدت فروع هذه الجمعية إلى جميع عواصم أوروبا. فى بداية عام ١٩٥١ كلفه د. طه حسين وزير المعارف وقتذاك، بالتوجه لدير «سانت كاترين» بسيناء لجرد مكتبة الدير الثمينة وفهرستها وتنظيمها، فاصطحب معه الأستاذ يسى عبد المسيح، أمين مكتبة المتحف القبطى فى ذلك الوقت، وانتهى من فهرسة حوالى ٥٠٧١ مخطوطة مكتوبة باثنتى عشرة لغة، وقد عثر هناك على أقدم التراجم العربية للكتاب المقدس فى العالم، وهى ترجمة تعود إلى القرن التاسع أو العاشر الميلادى.
وقد كلفته جمعية البحوث الألمانية بنشر هذه الترجمة العربية، ومعظمها مكتوب بالخط الكوفى غير المنقوط، وهى مُترجمة عن اليونانية وليست عن السريانية. كما قام مع الأستاذ يسى عبد المسيح بتنظيم وفهرسة مكتبة دير السريان بوادى النطرون. وقبل وفاته أرسل خطاباً إلى البابا شنودة الثالث البطريرك ١١٧ ليقدم مكتبته كلها هدية للكلية الإكليريكية بالقاهرة، والمكتبة تضم حوالى ٢٠ ألفاً من الكتب فى شتى الموضوعات اللغوية والأدبية والدينية والبعض منها يُعتبر فى حكم النادر. فى مقدمة كتابه يقول: (دافع شعب مصر عن حضارته وثقافته التى ورثها، أمام التيارات الجارفة التى هددتها بالاكتساح، وصمد الشعب أمام الأحداث الجسام التى انتابته ورجسّت أركان حضارته، وكانت تحدوه فى ذلك روح وطنية خالصة.
غلاف الكتاب
ولا غرابة فى ذلك، فإن حضارة مصر وثقافتها مصرية صميمة نبعت من شعب مصرى أصيل، له كيانه الخاص، وله شخصيته المميزة. وقد أثرت حضارته فى العالم، كما شارك الشعب المصرى فى تقدم الإنسانية. فإلى هذه المشاركة نعزو إثبات وجودنا، ومن هذه المشاركة وضحت شخصيتنا، وعلى هُدى هذه المشاركة فى الحضارة العالمية، نخطو إلى مشاركة أسمى منها، ولنذكر دوماً ما أدته مصر للعالم، وما ينتظره العالم منها من مشاركة فعالة). يقول فى مدخل كتابه إنه فى الشطر الثانى من حكم الرومان، أى من ديوقلديانوس إلى دخول العرب، تأثر تاريخ مصر بعاملين رئيسيين وهما: المسيحية والسياسة البيزنطية.
فقد كان للإسكندرية الزعامة الدينية فى الشرق المسيحى، وفى مصر نشأت الرهبنة التى أخذها عنها العالم المسيحى، وفى مصر ظهر أعظم رجال الفكر المسيحى. وعندما تولى ديوقلديانوس (٢٨٤ – ٣٠٥م) الحكم وجد نفسه أمام مجموعة من اللوائح والقوانين والنُظم – التى تسير عليها سياسة الإمبراطورية – فأدخل إصلاحات عديدة، إذ جعل من الإمبراطور شخصية مقدسة تؤدى لها فروض العبادة بمقتضى طقوس دقيقة مرسومة استمدها من تقاليد الشرق.
ثم استعرض الكاتب الاضطهادات العشرة التى عانت منها الكنيسة القبطية: (١) الاضطهاد الذى وقع على مسيحيى الإسكندرية فى عهد نيرون (المُلقب بالملك الدموى) من سنة ٦٥ إلى سنة ٦٨ م، فكان أول دم شهيد أريق على أرض مصر هو دم القديس مرقس، وذلك فى ٣٠ برمودة (الموافق ٨ مايو) ودُفنت رفاته فى الكنيسة التى أنشأها بالإسكندرية، ثم سُرقت بعد ذلك إلى مدينة البندقية (فينيسيا) بإيطاليا. (٢) اضطهاد دوميتيان (٨١ – ٩٦م) الذى أمر باضطهاد أتباع السيد المسيح. (٣) اضطهاد تراجان (٩٨ – ١١٧م) الذى أصدر أمراً بمنع الاجتماعات السرية، وممن استشهدوا فى هذا الاضطهاد البطريرك الرابع من باباوات الكرسى السكندرى. (٤) اضطهاد هدريان (١١٧ – ١٣٨م) أباح للرعاع أن يقتلوا المسيحيين دون محاكمة. (٥) اضطهاد ماركوس أوريليوس (١٦١ – ١٨٠م) الذى كان متعصباً للفلسفة الرواقية، فأخذ يرغم المسيحيين على أعتناقها بقوة السلاح. (٦) اضطهاد سبتيموس سويروس (١٩٣ – ٢١١م) الذى أمر على أثر ثورة اليهود بقتل كل من يدين بالمسيحية. (٧) أضطهاد مكسيموس التراكى (٢٣٥ – ٢٣٨م) الذى أعلن سخطه على المسيحيين. (٨) اضطهاد دكيوس (٢٤٩ – ٢٥١م) الذى أصدر أمراً سنة ٢٥٠م بأستئصال المسيحيين. (٩) أضطهاد فاليريان (٢٥٢ – ٢٦٨م) الذى أصدر أمراً سنة ٢٥٧م بنفى الأساقفة من كراسيهم. (١٠) اضطهاد ديوقلديانوس (٢٨٤ – ٣٠٥م) كان أكثر الاضطهاد عنفاً، ففى سنة ٣٠٣م أصدر مرسوماً بهدم الكنائس وحرق كتب المسيحيين.
الفصل الثانى من الكتاب يتعرض للحياة اللغوية، فمراحل تطور اللغة المصرية مرت فى خمس مراحل: (١) اللغة المصرية القديمة. (٢) اللغة المصرية المتوسطة. (٣) اللغة المصرية الحديثة. (٤) الديموطيقية. (٥) القبطية، وقد سُميت بالقبطية لأن المصريين فى ذلك الوقت كانوا يُسمون أقباطاً، وقبطى معناه مصرى. الفصل الثالث يتناول الحياة الفكرية، فقد كانت الإسكندرية قد وصلت – وقت ظهور المسيحية – إلى درجة عظيمة من الأهمية، حتى أصبحت تُعتبر بحق العاصمة الثقافية للعالم وقلب العالم الهلينى النابض. وكانت مكتبتها تزخر بمن يفد إليها من العلماء والفلاسفة وطُلاب المعرفة، لا من بلاد اليونان فحسب وإنما من كل جهات العالم، يجلبون معهم علوم بلادهم وثقافتها، وازدحمت المدينة بأناس من شتى الأجناس والأديان والثقافات، حتى لكأنها كانت معهداً ثقافياً.
أما عن الإنتاج العلمى والأدبى والثقافة الشعبية فقد ورث الأقباط عن أجدادهم الفراعنة براعة فى الطب والتشريح والكيمياء والصيدلة والهندسة والفلك. واستمروا على نبوغهم فى هذه العلوم طوال العصرين اليونانى والرومانى، حتى أصبحت مدرسة الإسكندرية الوثنية القديمة هى أقوى مدارس العالم فى هذه الدراسات ثم تأسست المدرسة القبطية المسيحية وقامت بتدريس هذه المواد أيضاً. ونتج عن كل ذلك نهضة علمية لا مثيل لها، ونبغ من الأقباط أساتذة تخرج عليهم كثير من علماء العالم القديم. فظهر منهم «هيروفيلاس» مؤسس علم التشريح، و«إيريستسرانوس» مؤسس علم وظائف الأعضاء، و«ديموكريتوس» صاحب نظرية الذرة، كما ظهر العالِم الماهر «كرنيليوس كلسوس» الذى وضع تذكرته الطبية الشهيرة لمنع تلف الأسنان، وغيرهم.
أما الإنتاج الأدبى فيشمل: ترجمة الكتاب المقدس، أقوال الآباء، سير القديسين، الإصلاح الاجتماعى التى تظهر فى خُطب الأنبا شنودة رئيس المتوحدين التى حارب بها البدع الموجودة فى عصره كالدجل الطبى والسحر وفوضى الموالد… إلخ. الفصل الرابع تناول الحياة الفنية، فهناك الفن الشعبى، الفن الدينى والمدنى، الفن النابع من البيئة المصرية، فن يستخدم الأشكال الهندسية والرمزية. ثم تناول بعد ذلك الموسيقى والألحان، كما تعرض إلى الحياة الاجتماعية: مركزالمرأة فى الحياة المصرية، الأسرة، العادات، التقويم، الرهبنة. الكتاب يعرض باستفاضة كل مظاهر الحضارة المصرية الرائعة التى تجلت بوضوح فى العصر القبطى.