الكاتبة اللبنانية ضحى عبد الرؤوف المل تقدم: تحليل نفسي ونقدي لمسلسل “الانكسار” والرواية الأصلية.

نجح مسلسل «الانكسار» فى الجمع بين العمق النفسى والروعة البصرية. هو «حالة درامية نادرة»، يتقاطع فيها الأدب والدراما، مستندًا إلى رواية الكاتبة والمعالجة النفسية التركية جولسيرين بودايجى أوجلو، التى تميزت بكونها واحدة من القلائل الذين مزجوا بين الطب النفسى والأدب السردى بإبداع آسر. هذا الربط بين السرد الكتابى الأدبى والدراما البصرية التلفزيونية لم يكن مجرد اقتباس حرفى، بل إعادة خلق، حيث ترجمت خلالها الأزمات النفسية، والصراعات الإنسانية، والمشاعر الممزقة إلى مشاهد درامية مشحونة، تلامس الوعى واللاوعى معًا. فهل المسلسل، كما الرواية، مزيج من الأدب والعلاج النفسى؟.
فى رواية «إذا خسر الملك»، لا تُبنى الحبكة حول حدث، بل حول إنسان. البطل «كينان باران» ليس مجرد رجل، بل مرآة لسلطة مهتزة، وقلب ينهار بصمت، وفكر يعيش تناقضاته فى صراع داخلى لا تهدأ وتيرته. الملك فى الرواية ليس سوى رمز للرجل الذى ظن أنه بوسعه السيطرة على كل شىء، حتى على الحب، لكنه سرعان ما يكتشف أن أضعف نقطة فيه هى «نفسه».
تميّز المسلسل الدرامى المقتبس عن الرواية فى نقل الحالة النفسية للكاتب إلى الشاشة، لكن ما يُحسب له ليس فقط الترجمة الدرامية للحبكة، بل تحويل السرد النفسى إلى سرد بصرى نابض. هنا يصبح الصمت فعلًا دراميًا، والنظرة جملة، واللقطة الطويلة مكاشفة داخلية. المخرج لم يعتمد على المونولوجات الداخلية وحدها، بل منح الكاميرا دورًا فى الغوص فى داخل الشخصيات. الظلال، الإضاءة الداكنة، الموسيقى الحزينة، وتفاصيل الوجوه، كلها عناصر خدمت الجانب النفسى الذى قد يعجز النص وحده عن نقله على الورق. فهل يتحوّل النص إلى لحم ودم؟.
مشهد من المسلسل
يبرز التحالف الخفى بين الأدب والدراما النفسية فى مسلسل «الانكسار»، الذى لم يقع فى فخ الترفيه الفارغ، بل جعل من كل حلقة رحلة داخل الإنسان، داخل تاريخه، وطفولته، وذكورته المجروحة، وأنوثته المغتصبة من الحب والخذلان. هنا تتحول العلاقات العاطفية إلى تحليل نفسى حى، والخيانة إلى استجابة نفسية لفراغ داخلى، والحب إلى آلية تعويضية فى ظل انعدام الأمان. لم يكن المشاهد يتابع قصة رجل وامرأتين، بل يتابع صراعًا مركبًا بين الحنين، والسلطة، والاحتياج، والألم غير المحكى. دراما شُفيت من السطحية. تتجلى الرواية فى المسلسل بكل عمقها النفسى والتفصيلى فى مشاهد حية تنبض بالعاطفة والتمزق والخذلان والضعف البشرى. هذا العمل لا يقدّم مجرد قصة حب وخيانة، بل يرسم تشريحًا نفسيًا دقيقًا لرجلٍ كان يملك كل شىء، وها هو يفقد خيوط اللعبة التى نسجها بنفسه، كما يفقد الملوك عروشهم لا بسقوطٍ خارجى، بل بانهيار داخلى متسلل. فهل بين النص والمشاهد نسخ لا يقتل الروح؟.
لا يخفى على أى متابع أن المسلسل اقتبس تفاصيل الرواية الأصلية بدقة مذهلة. من أسلوب الحوار، إلى حركة الأبطال، إلى المشاهد التى تكررت بصريًا وكأن الكاميرا تسير فوق سطور النص، وليس فقط مستلهمة منها. لكن الأجمل فى هذا التوأم السردى، أن المسلسل لم ينسخ الرواية بجمود، بل أعاد بناءها بلغة بصرية جذابة دون أن يخسر العمق.
مشهد كنان وهو يغادر المقهى بوجه مقطّب، تاركًا أصدقاءه فى لعبة الورق وسط ذهولهم، هو أحد أكثر المشاهد المعبّرة عن الانكسار الذكورى المدفون تحت قشرة العنف الظاهرى. فى الرواية، نقرأ العبارة: «صرخ بصوت يشبه الزئير على نادل الملهى: حسين، ناولنى معطفى، سأخرج»، بينما فى المسلسل، لم تكن الكلمات وحدها هى التى تحدّثت، بل نظرات العيون، الموسيقى المتصاعدة، والظل الثقيل الذى خلّفه كنان وراءه. هكذا يتحوّل النص الأدبى إلى جسد بصرى ينبض بالحركة والانفعال. فهل كنان بطل مأزوم أم ضحية هوس التملّك؟.
من الجانب النفسى، يُعدّ كنان نموذجًا مركّبًا لرجل اعتاد أن يكون المنتصر فى كل شىء: فى الورق، فى الحب، فى العمل، فى الهيبة. لكنه فى الحقيقة، كُتب عليه أن يكون رجلًا خاسرًا بشكل بطىء ومؤلم. الانكسار عند كنان لا يأتى من امرأة أو من فشل عاطفى فحسب، بل من إدراكه المتأخر أنه لم يعد يعرف نفسه، وأن كل تلك الانتصارات ما هى إلا أقنعة هشّة.
هذا البطل المأزوم لا يواجه عدوًا خارجيًا، بل يسقط ضحية ذاته: رغبته فى التملّك، رفضه للاستقرار، خياناته المتكررة التى لم تكن بدافع الحب بقدر ما كانت وسيلة لإثبات رجولته فى مجتمع يربط بين الذكورة وتعدد العلاقات. هذا التناقض يجعله شخصية درامية بامتياز، لا تصلح أن تكون محبوبة ولا مكروهة، بل مفهومة فقط. فماذا عن أوزلام وهاندان، الوجهان للأنوثة الجريحة؟
تلعب النساء فى «الانكسار» دورًا فاعلًا ومركزيًا. أوزلام، الصديقة التى غدرت، لا تظهر كامرأة شريرة تقليدية، بل كامرأة جميلة أدركت أن ما تريده يجب أن تحصل عليه، بغض النظر عن الثمن. وفى المقابل، تقف هاندان كرمز للأنوثة النقية التى انكسرت مرتين: مرة بخيانة الزوج، وأخرى بخيانة الصديقة.
غلاف الكتاب
الجانب النفسى العميق فى شخصية هاندان يكمن فى تمسّكها برجل دمّرها، ليس من منطلق ضعف، بل من شعور دفين بأنها لا تزال تحبه، أو بالأحرى، لا تزال تحب الصورة التى رسمتها له ذات يوم. هى تعيش حالة «حب ما قبل الخيانة»، أى أنها تحنّ إلى ما كان، لا إلى ما هو. ومن هنا، يتخذ قرارها بالتواصل معه مجددًا شكلًا من أشكال إعادة بناء الذات من خلال استعادة الحبيب، حتى لو كان ذلك على حساب الكرامة. فهل الانكسار وصفة لفكرة وجودية؟.
لماذا «الانكسار»؟ فى النسخة العربية المدبلجة، هل لأن كل الشخصيات، من كنان إلى أصدقائه، ومن هاندان إلى أوزلام، تسير فوق جسر هشّ من التوازن النفسى؟، أم لأن الجميع ينكسر، لكن لا أحد يعترف؟ فالصديق الذى يرمى الورق غاضبًا، لا يغضب فقط لأن كنان رحل، بل لأنه يذكّره بأن «الرجل» الذى يكسر قواعد اللعبة قد يكون هو أيضًا من يكسر صورته أمام نفسه. الكل هنا يكسر شيئًا ما: وعدًا، علاقة، عادة، أو حتى قناعًا.
هل يعكس العنوانان جوهر الرواية والمسلسل، أم يسلطان الضوء على جوانب مختلفة من القصة والشخصيات؟
«إذا خسر الملك»: العنوان يشير إلى «كينان» الذى يُمثل الملك فى الرواية، رمزًا للسلطة والقوة. لكنه يكتشف أنه لا يستطيع التحكم فى مشاعره وحياته العاطفية، مما يعكس الخسارة الشخصية العميقة التى تتجاوز السلطة. العنوان يطرح تساؤلًا وجوديًا عن معنى القوة عندما يفقد الملك القدرة على التحكم حتى فى نفسه. أما فى «الانكسار»: العنوان يركز على الصراع الداخلى للبطل، وخاصة صراع الذكورة والهشاشة النفسية. يعكس الانهيار النفسى الذى يعانيه «كينان» ويشير أيضًا إلى انهيار الشخصيات الأخرى بسبب الحب والخيانة والندم، مما يعكس هشاشة الإنسان أمام المواقف العاطفية.
المسلسل والرواية معًا يتبنيان خطابًا عميقًا عن الهشاشة الإنسانية. عن تلك اللحظة التى ينهار فيها كل ما نعتقد أنه صلب: الصداقة، الحب، الرجولة، الكبرياء. وهذا يجعل «الانكسار» ليس فقط عنوانًا لحالة نفسية أو ظرف درامى، بل لفلسفة حياتية تمسّ كل من يجرؤ على التورّط فى العاطفة. فهل من نهاية مفتوحة أم خيط مهترئ؟ لا يسعى «الانكسار» إلى تقديم أجوبة بقدر ما يفتح الأسئلة على مصراعيها. هل سيعود كنان إلى هاندان؟، هل ستسامحه؟، هل يمكن لشىء مكسور أن يُصلح؟، لا يحسم السرد ذلك، لا فى الرواية ولا فى المسلسل، لأن الحياة الواقعية – كما يعكسها النص – لا تمنح نهايات مرتّبة. فروايات بودايجى أوغلو ليست روايات تقليدية، بل هى صفحات حقيقية من دفاتر الحياة، استُلهمت من تجارب بشرية حقيقية داخل العيادات النفسية، ثم أعادت الكاتبة بناءها بلغة أدبية راقية، وشخصيات واقعية، لدرجة أننا نكاد نسمع أنفاسها. كما استطاع خالد أرغنتش بدور كينان أن يجسّد ببراعة شخصية مضطربة، مليئة بالتناقض، يتنازعها الكبرياء والندم، السلطة والحب، العقل والرغبة. أما أسليهان غوربوز بدور هاندان، فهى التجسيد الحى للألم النبيل، الأنثى التى أُخذ منها كل شىء لكنها ما زالت واقفة. وفى المقابل، قدمت ميرفى ديزدار شخصية فاطمة بشكل مذهل: امرأة شابة تنمو داخل حقول الألغام النفسية والعائلية، وتبحث عن هوية لا تذوب فى الآخرين. كل ممثل كان عليه أن يحمل عبء رواية نفسية تتطلب حساسية عالية فى الأداء، واستطاعوا ذلك بدرجة لافتة.
«الانكسار» هو أكثر من مجرد عمل درامى مقتبس من رواية. إنه تجربة فنية ونفسية متكاملة، تسير على الحافة بين الخسارة والانتصار، بين الغواية والندم، بين البطل والمأساة. إنه درس فى السرد، وفى الحياة. فهو ليس فقط مسلسلًا ناجحًا جماهيريًا، بل هو انتصار للأدب النفسى حين يجد مكانه على الشاشة دون أن يفقد عمقه. إنه دعوة صريحة للمنتجين، الكتّاب، والمخرجين أن يعودوا إلى الجذور: الإنسان.
من خلال هذا العمل، أثبتت غولسيرين بودايجى أوغلو أن أفضل الروايات ليست تلك التى تصف الخارج، بل التى تحفر عميقًا فى داخل النفس. وأثبت صنّاع الدراما أن الرواية ليست عائقًا بصريًا، بل يمكنها أن تكون روحًا جديدة إذا مُنحت عدسة تحترمها.فى النهاية، قد يخسر الملك… لكن الأدب ربح.