طارق ياسين الطاهر يقدم تحليلًا لمجموعة القصص القصيرة للكاتب السعودي حسن البطران بعنوان “على باب مغارة”

«على باب مغارة» مجموعة قصصية تناولت قصصًا قصيرة جدًا، تميزت بكل سمات «القصة»، وعناصر «القصيرة»، وصفات «جدًا».
مجموعة «على باب مغارة» للأستاذ حسن البطران، وهو أول من تخصص فى القصة القصيرة جدًا فى المملكة العربية السعودية، حسب وزارة الإعلام السعودية، من خلال الموسوعة السعودية الرقمية الشاملة (سعوديبيديا)، وقد صدرت عنه كتب لمناقشة تجربته، وكانت قصصه ميدانا للدراسات العليا، وكذلك ضُمِّن اسمه فى مقررات اللغة العربية فى المرحلة الثانوية.
طارق ياسين الطاهر
نشأت القصة القصيرة جدا فى الغرب – كبقية الفنون القصصية – والأرجح أن ذلك كان من خلال قصّة قصيرة جدا كتبها الرّوائى «أرنست همنجواى» سنة ١٩٢٥ م: «للبيع، حذاء طفل، لم يُلبس قط» من أهم ما وسم تلك المجموعة القصصية للقاص حسن البطران أن قصصها تتمتع بالتكثيف والتركيز.
التكثيف – بكل أنواعه الدلالى والبنائى- يتطلب اختزال كثير من الكلام فى جملة واحدة، والتركيز يستوجب إيصال الفكرة بشكل موجز ومركز، وقلة الشخصيات وقلة الأحداث ووحدة الزمكان، وعدم تشعب الفكرة، كما تتسم مجموعته بالعمق الذى يتطلب النفاذ إلى الداخل، وليس الوقوف على سطح المعانى، أو ظاهر العبارات؛ مما يجعل القصة – أى قصة – قابلة للتأويلات المتعددة والتفسيرات المتباينة. ويبرز ذلك بقوة فى معظم قصص هذه المجموعة، ولكننا يمكن أن نعد قصة «لمحات» نموذجًا للتكثيف والتركيز والعمق؛ حيث جاءت القصة فى كلمتين فقط، ولكن بينهما من الدلالات والمعانى ما يمكن بسطه فى قصة طويلة، حيث تقول القصة:
ابتسمت… خُطبت! اشتملت مجموعة «على باب مغارة» على أكثر من أربعين قصة قصيرة جدا. عنوان المجموعة «على باب مغارة»، ومن المعلوم أن العنوان يعد من أهم المباحث اللغوية والدلالية فى أى عمل أدبى.
حسن البطران
ومن أهم وظائف العنوان: تحديد هوية النص، وإثارة ذهن المتلقى وتشويقه. أما تحليل العنوان نقديا، فيكون عبر عدة مستويات، هى المستوى المعجمى والدلالى والتركيبى والصوتى. من حيث المستوى المعجمى وهو معنى العنوان؛ إذ يقول لنا إن الموقف هو على باب مغارة بكل ما تحتويه من معان وظلال وغيبيات ومخفيات تتوارى داخل هذه المغارة. على المستوى التركيبى تكوّن العنوان من شبه جملة «جار ومجرور» – على باب – واسم نكرة – مغارة- وفيها تقديم وتأخير؛ إذ تقدم الجار والمجرور «على باب» وتأخر المبتدأ النكرة «مغارة»، وفى ذلك التقديم والتأخير فوائد، أبرزها الاهتمام والتخصيص والتشويق.
أما دلاليا؛ فإن المغارة تعنى المجهول والمخيف وتعنى العميق من الأشياء، وما توحى به كلمة مغارة من الخوف من المجهول… صوتيا يشتمل العنوان على حروف حلقية، وهى العين والغين وحرف شفوى انفجارى تكرر مرتين فى كلمة واحدة وهو الباء.
ولو انتقلنا إلى عنوانات القصص، فهناك صلة قوية بين عنوان كل قصة ومضمونها، ولو ضربنا مثالا لذلك بقصة «تلف جذور» التى يقول فيها: غراب فوق الشجرة، أغصانها جافة، يرفض قلعها.
غلاف الكتاب
العنوان «تلف جذور» احتوى العنوان على كلمة «الجذور» بكل دلالاتها التى ترمز إلى الأصل والثبات والرسوخ، والقصة تحكى عن غراب، شجرة، أغصان جافة، قلع،… وكلها حقول دلالية للشجرة، وهى ذات صلة عميقة بالجذور، إذن نلحظ أن الكاتب وُفِّق تماما فى اختيار العنوان الذى يعبّر عن القصة ومضمونها.
لغة القاص رقيقة جدا وموحية، وتحمل ظلالا ودلالات عميقة عند تحليلها، وفى بعض المواضع تكاد تكون لغة شعرية بكل ما تكتنزه من صور وخيال ودقة مفردات.
وقد استخدم الكاتب آليات متفردة لسبك قصصه، ومن ذلك توظيف التضاد والمفارقات كما فى قصة «مرآة غير صافية»:
أحبته أهدته وردة أهداها خنجرا، فتتكرر المرآة، وتتكرر المفارقة فى قصة أخرى هى «مرآة مشوشة»:
أحبها أهداها وردة أهدته حذاءها فالمرآة غير صافية هناك، ومشوشة هنا، فالمعنى واحد، والمفارقة جلية واضحة، فكأنه هنا يوازن بين موقفه بوصفه كاتبا، فلا ينحاز لرجل أو امرأة، فكلاهما يبذل الحب، وكلاهما ينكر الفضل.
ويبرز التناقض، وتظهر المفارقات بشكل واضح تماما فى معظم القصص مثال ذلك: «تشتت صمت» و«فروقات» و«نفاد طاقة»، كأنّ الكاتب اتخذ من المفارقات بمحتواها المدهش ثيمة له تنتظم مجموعته القصصية هذه؛ مما منحها قدرة على إمتاع القارئ فى الوقوف على تلك المتضادات التى تزيد أفكار الكاتب وضوحا، وتجعلها قادرة على الولوج إلى عقل القارئ وقلبه.
فالقاسم المشترك بين قصص هذه المجموعة هو الدهشة والمفاجأة والمفارقات، وذلك يكون بإجادة وضع النهايات، وختم الحدث؛ إذ يأتى – غالبا- غير متوقع؛ مما يعطى القصة جمالها وأهميتها؛ لذا يجدر بالنقاد أن يدرسوا هذه المجموعة عبر مربع جريماس، الذى يعمل على تحديد العلاقات المنطقية بين المفاهيم المتقابلة والمتناقضة، مما يساعد فى تحليل البنية السردية والخطاب السيميائى فى مختلف النصوص والأنظمة الدلالية.
تتنوع القصص – فى عرض الأحداث- بين السرد والحوار، فى هذه المجموعة كان السرد مسيطرا، وذاك أمر طبيعى؛ لأنها قصص قصيرة جدا، ولكن وظف الكاتب الحوار فى بعض القصص، ومن ذلك قصة «لوحات»، حيث أدار الكاتب حوارا بين الابن وأبيه.
أما من حيث السرد – فى الفن القصصى عموما- الذى يأتى بعدة طرق منها: السارد العليم «ضمير الغائب»، والسارد المباشر «ضمير المتكلم»، أو السارد المشارك الذى يجمع بينهما، وهنا فى مجموعة «على باب مغارة» تناول الكاتب قصصه عبر آلية السارد العليم فى معظم القصص مثال ذلك قصته «يارا» حين يقول:
مزقتْ، ابنتها، أوراقه، فتحها… وفى قليل من القصص استخدم السارد المباشر، ومنها قصة «خياطة خفية» حيث ورد فيها: أمسيتُ، ثوبى، لبستُ، رآنى.
ثمة أشياء احتفظ الكاتب بها؛ ليعصف ذهن القارئ، ويجعله مشاركا له فى استكناه خفايا المجموعة القصصية، والتعرف إلى فنياتها، ومن ذلك الأرقام التى وضعها بين كل ثلاث من القصص، فجاءت بمثابة فاصل أو عنوان جانبى أو بيان؛ لأن هذه الزمرة تتناول مضمونا مشتركا أو غير ذلك، مثلا: ولها رمزية غامضة إلى حد ما، على القارئ أن يشحذ همته ليتمكن من فك شفرة تلك الرموز.
عندما نقرأ قصص هذه المجموعة يتأكد لنا – فعلا – أنْ ليست كل المغارات مظلمة، حتى لو تظاهرت بذلك، كما قال الكاتب فى مستهل مجموعته. هذه وقفات عجلى، مع مجموعة قصصية متفردة، لكاتب متميز، كانت قصصه ميدانا لدراسات عليا، وقراءات نقدية مختلفة، لا تزال مفتوحة على كثير من التأويلات، وقابلة لكثير من التفسيرات.