السيد خيرالله يكتب: إرادة مصر بين صراع القوة وصراع الوعي

لو ما كانتش وقفة الشعب يوم 30 يونيو وفطنة قيادته، كنا اليوم زي دول حوالينا بتدفع تمن الفوضى. الإخوان لو كملوا، كانت مصر بقت أسوأ من سوريا واليمن والعراق. كل كارثة حوالينا بتفكرنا إننا اخترنا الطريق الصح في 2013.
لم تكن المواجهة في مصر محصورة في ساحة المعركة التقليدية، بل امتدت لتشمل الوعي الجمعي، والذاكرة الوطنية، وبنية الهوية الثقافية. انتصار أكتوبر عام 1973 لم يكن مجرد عبور قناة أو تحطيم خط دفاعي، بل لحظة مفصلية أعادت تشكيل سردية الأمة، تلاها تحرير طابا عام 1988 من خلال أدوات القانون الدولي والدبلوماسية المحكمة. وهكذا، رُسِم نموذج مصري فريد يجمع بين صلابة القوة العسكرية وذكاء الحجة السياسية، مؤكدًا أن الاستقلال لا يُحمى فقط بالبندقية، بل أيضًا بالبصيرة والرؤية الاستراتيجية.
في الزمن الراهن، تبدلت أشكال التهديد. لم يعد العدو يرتدي زيًّا عسكريًّا، بل يطل عبر منصات رقمية ومحتوى إعلامي موجه، مستهدفًا ما يُعرف في الدراسات الاستراتيجية بـ “الرأسمال الرمزي” للأمة، أي ذلك المخزون المشترك من الذكريات والانتصارات والرموز التي تشكّل وجدان الشعوب. الحرب باتت تُخاض داخل العقول والقلوب، حيث تُستخدم تقنيات التأطير المعرفي والتلاعب الإدراكي لتفكيك الشعور الجمعي بالانتماء والانتصار.
إنها حرب باردة من نوع جديد، تُدار بأدوات علم النفس الاجتماعي والاتصال الجماهيري، وتستهدف إسقاط المعاني الكبرى: من ملحمة أكتوبر إلى رمزية القائد الوطني، من شرف المعركة إلى شرعية الدولة. تحت شعارات فنية أو نقد ظاهري، تُروّج سرديات تهكمية، تقلّل من قيمة الإنجازات التاريخية، وتصوّر كل ما تحقق بأنه صناعة زائفة، غير قابلة للتصديق أو الفخر. هذا هو جوهر ما يُعرف بـ “تفريغ الهوية” أو “استنزاف الرموز”، إذ يصبح الفرد غير قادر على الاستناد إلى ماضٍ صلب ليواجه به حاضره أو يبني عليه مستقبله.
ومن هنا، تبرز أهمية الحصانة المعرفية التي لا تقل شأنًا عن أي قدرات عسكرية. فالدولة التي تبني قدراتها الدفاعية والأمنية، ولا تبني مواطنًا واعيًا بتاريخ بلاده وأبعاده الاستراتيجية، إنما تترك ثغرة أخطر من أي فجوة على الحدود. هذه الحصانة تُصاغ عبر التربية النقدية، والتعليم الجاد، والخطاب الإعلامي الذي يُوازن بين الاعتراف بالتحديات وتثبيت أسس الثقة في الذات الوطنية. فالتاريخ لا يُمنح للأمم، بل يُصان ويُعاد بناؤه يوميًا في عقول الأجيال.
ويُضاف إلى هذا التحدي الداخلي محاولات خارجية ممنهجة لاختراق الجبهة الداخلية. قوافل ما يسمى “الدعم الإنساني” التي انطلقت من تونس والجزائر، لم تكن إلا واجهة لتحالفات بين جماعات إخوانية ويسارية، اختارت الاصطفاف ضد مصر بذريعة نصرة غزة، بينما كانت تسعى لاختبار القدرة على تحريك الرأي العام الدولي ضد الدولة المصرية. لم يكن الهدف إنقاذ الفلسطينيين، بل اختراق موقف مصر المتوازن، وخلق فجوة بين الشعب ومؤسساته عبر إثارة شبهات وتصدير سردية مشوّهة إلى الخارج.
لكن هذا المخطط سقط سريعًا أمام وعي المصريين الذين التقطوا الرسائل وفككوا الرموز، ورفضوا الانجرار نحو مصائد شعاراتية تفتقر إلى أي مصداقية. المفارقة أن بعض الأصوات الشريفة من داخل تونس والمغرب والجزائر خرجت تنتقد هذه التحركات، مؤكدة أن استقرار مصر ليس ملفًا للنقاش، وأن اللعب باستقرار الدول لا يمكن أن يُدرج تحت مسمى “التضامن”.
وما كان للمخطط أن يُجهض لولا وضوح الرسالة المصرية: الأمن القومي ليس محل مواءمة، والسيادة الوطنية لا تُدار عبر شعارات غوغائية. الرد المصري، دون ضجيج، جاء حاسمًا: لا اختراق للمجال السياسي ولا عبث بالاستقرار الداخلي. وكانت النتيجة سقوطًا مدوّيًا لكل من تورط في الترويج للمخطط أو وفر له منصة.
ومع ذلك، فإن المعركة لم تنتهِ. إن ما يُبقي المصري في عمله، وسهره، وصيفه، وسط إقليم يشتعل على أطرافه، ليس مجرد توازنات سياسية، بل منظومة أمنية متماسكة، مدعومة بإيمان شعبي بأن الوطن يستحق الصون. قد تواجه مصر أزمات اقتصادية أو اجتماعية، لكنها لم تفقد قدرتها على إنتاج الأمل، وتشييد مشروعات كبرى، وبناء مؤسسات قادرة على الصمود والتجدد. إنها دولة لم تُترك للانهيار، بل تمضي نحو إصلاح هيكلي وإنتاجية مستقلة، وسط إقليم تتآكله التبعية والانقسامات.
وهذا التماسك لا ينفصل عن الاستراتيجية الخارجية لمصر، التي تنوعت محاورها بعناية: تحالفات مع الخليج والولايات المتحدة، علاقات مرنة مع روسيا والصين وأوروبا، ووساطة فاعلة في ملفات إقليمية شديدة التعقيد، من غزة إلى ليبيا، من غزة إلى الصومال، ومن السودان إلى شرق المتوسط. مصر، بسياساتها المتوازنة، استطاعت أن تكون صوتًا عاقلًا في زمن الاستقطاب، ونقطة ارتكاز بين قوى كبرى، دون أن تفقد استقلال قرارها أو وضوح بوصلتها.
وفي صلب هذه المعادلة، تأتي القيادة السياسية التي تتعامل مع المستقبل بمنهجية استباقية، لا ردود أفعال متسرعة.الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يكتفِ بتعزيز بنية الجيش أو تطوير قدراته، بل أطلق مسارًا متكاملًا يشمل الزراعة والطاقة والبنية التحتية والتعليم والاقتصاد، في توازن دقيق بين صيانة الأمن القومي وبناء الدولة الحديثة.
إن مفهوم “الردع الذكي” الذي تتبناه مصر لا يعتمد فقط على امتلاك السلاح، بل على إدارة الصورة الذهنية للدولة، وتعزيز الثقة الوطنية، وتحقيق التوازن بين القوة الصلبة والناعمة. الطائرات والمدافع تؤمن الحدود، لكن الإعلام والمناهج والدراما تصون العقول.
كما نرى الضربات الإسرائيلية – الأميركية الأخيرة في إيران تلك التي لم تكن موجهة فعليًا للبرنامج النووي الإيراني، بقدر ما استهدفت تقويض سيادة طهران، لتتحول تدريجيًا إلى دولة منزوعة القرار، على غرار ما حدث في سوريا والعراق.
الليلة الماضية شهدت وقائع درامية تتجاوز الخيال، ما يهم الآن هو قراءة الصورة الكاملة: إيران ليست وجهًا آخر لإسرائيل، بل طرف عاجز في لعبة أكبر منها.
الملالي اليوم لا يشبهون شاه إيران الذي وقف بجانب مصر في حرب أكتوبر، ولا مصدق الذي نادى بتأميم النفط واستقلال القرار. إيران الحالية تسللت عبر الطائفية، وقدّمت الدعم لفصائل سنية متطرفة حين خدم ذلك أجندتها، كما حدث مع الجولاني وجماعته داخل سوريا بتسهيلات مباشرة من نظام الأسد.
نرى اليوم النتيجة الفعلية وحصد ما تم زراعته في عقود، دولة نمر من ورق عاجز عن الدفاع عن قيادته حتى خسر حتى أذرعه السياسية والميليشيات في دول عديدة، سياسة كانت مرحلية في وقت ما، واليوم تتبدل الأدوار، وكما تم تصعيد الجولاني في سوريا جاري البحث عن جولاني في اليمن والعراق وايران أيضا، ينصاع للأوامر وينفذ المراد منه.
لكن… مصر مختلفة. لا أحد يستطيع أن يهز شعرة في هذا البلد. جيشنا الوطني هو من يقف بثبات أمام مشاريع الهيمنة، وعيوننا مفتوحة نرصد كل التفاصيل، ونتعامل معها بوعي عسكري واستراتيجي.
صمودنا له ثمن، والضغوط الاقتصادية جزء من فاتورة موقفنا. لكننا لا نلين. المطلوب الآن: وعي جماهيري، ومراجعة ذاتية، واستعداد دائم.
أما للرئيس السيسي فنقول: القرار الصائب في الوقت المناسب يصنع التاريخ… ونحن معك، كتفًا بكتف، حتى النهاية.
وختامًا، تبقى السيادة الحقيقية شاملة: تبدأ من تأمين منابع المياه والغذاء، وتمر بتأمين الحدود البرية والرقمية، ولا تنتهي إلا بسيادة العقل الجمعي على وعيه. حين يدرك كل مصري أن وطنه ليس مجرد جغرافيا، بل تاريخ وثقافة وكرامة، يصبح جزءًا من منظومة الدفاع الوطني. معركة الوعي لا تُخاض لمجرد التفاخر، بل لصيانة الحق في المستقبل. مصر لم تُصنع صدفة، ولن تُترك للمصادفة.