حكايات بيع تراث مصر السينمائى ومسح أرشيف المسرح لتسجيل المباريات وبرامج الطبخ

التراث السينمائي ليس مجرد أفلام قديمة تعرض بين الحين والآخر بل هو ذاكرة بصرية توثق ملامح المجتمع وتحولاته عبر العقود، ورغم ذلك يواجه هذا التراث في مصر خطرا حقيقيًا بعد ضياع أو إتلاف نيجاتيفات مئات الأفلام وتعرض بعضها للحرق أو البيع في ظل غياب الوعي والحماية القانونية.
وتقدر بعض البيانات التي تعود إلى عام 2016 ما تبقى من 100 عام من الإنتاج السينمائي المصري بنحو 365 فيلما فقط تملكها وزارة الثقافة من أصل 5000 فيلم.
ورغم أن الأزمة ممتدة منذ سنوات فإنها عادت إلى الواجهة مؤخرا بعد أن أثارها فنانون ونقاد بعضهم طرح حلولا واخرون طالبوا بتدخلات جذرية.
وشهدت الساحة -مؤخرًا- ظهور عدد من المبادرات المستقلة التي تسعى إلى ترميم الأفلام وحفظها رقميا في محاولة لإنقاذ ما تبقى من هذا الإرث الغني قبل أن يمحى من الذاكرة إلى الأبد.
فيلم «أهل القمة»
في عام 2023 فجر فيلم «أهل القمة» أزمة واسعة بعد الكشف تلف نيجاتيف الفيلم وهو من أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية ما أثار صدمة بين المهتمين بالسينما والتراث الثقافي.
ورغم نجاح الجهود بعد ذلك في ترميمه وإعادة عرضه إلا أن ما حدث أعاد فتح ملف التراث السينمائي المهمل وسلّط الضوء على مئات الأفلام الأخرى التي لم تكن بنفس الحظ.
هذه الحادثة لم تكن استثناء بل نموذجا لواقع أكثر قسوة، حيث تؤكد تقديرات غير رسمية فقدان أو إتلاف نيجاتيفات ما يزيد عن 2000 فيلم مصري كثير منها أعمال نادرة إما بسبب الإهمال أو نتيجة بيعها لمؤسسات خارجية بأثمان زهيدة أو حرقها عمدا لاستخلاص موادها المعدنية.
إرث وطني ضائع
كان للفنان محمود حميدة دور بارز في إعادة طرح الأزمة إلى السطح من خلال تصريحاته الجريئة والمتكررة في أكثر من ندوة.
وعبّر «حميدة» عن استيائه الشديد في ندوة بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ45، قائلا إنه يتمنى وجود جهة حكومية تهتم بأرشيف الأعمال السينمائية القديمة، لافتا إلى قيام البعض في وقت ببيع النيجاتيف الخاص بالأفلام لجهات غير مصرية، مما جعل التاريخ السينمائي يتم سرقته.
وأكد حميدة، أنه شعر بالصدمة بعد ضياع 2000 فيلم مصري، مشيرا إلى أن بعض العائلات أقدمت على حرق هذه الأفلام لبيع مكوناتها المعدنية.
وقال: «حينما كنا نقوم بحصر الأفلام للاحتفال بمئوية السينما المصرية، وجدنا أن هناك 2000 فيلم لا نعلم عنها شيئًا».
وأضاف خلال الجلسة: «وقت دخولي السينما كان نيجاتيف الفيلم السينمائي المصري يُباع في إحدى القنوات العربية مقابل 1500 جنيه، وبعض الورثة كانوا يقومون بتسييح الفيلم عن طريق بيعه إلى محلات الفضة».
وأكد «حميدة» أن ما يحدث لا يقل عن جريمة في حق التاريخ الثقافي لمصر، مضيفًا أن غياب «السينماتيك» (الأرشيف السينمائي الرسمي) هو أحد أسباب تفاقم الأزمة.
كما انتقد ضعف الوعي لدى بعض ورثة الفنانين الذين يرفضون التصرف في أعمال ذويهم خوفًا من إساءة استخدامها وهو ما وصفه بـ«مقاومة الأرشيف».
نموذج سامح فتحي
ومن جانبه، كشف الباحث السينمائي سامح فتحي عن اتفاقه مع مدينة الإنتاج الإعلامي لترميم 100 فيلم من أبرز أعمال السينما المصرية.
وأوضح أنه تم الانتهاء من ترميم 16 فيلمًا حتى الآن، بتكلفة تصل إلى 100 ألف جنيه للفيلم الواحد.
وأشار «فتحي»، إلى أن عملية الترميم تشمل نقل الأفلام إلى تقنية 4K مع إجراء عمليات ترميم رقمية وتصحيح الألوان باستخدام أحدث الأجهزة.
وأضاف أن حقوق الترميم والتوزيع للأفلام تمت عبر اتفاق مع الشركات المالكة للحقوق لمدة خمس سنوات، مع توفير حقوق توزيع النسخ المرممة بصيغة DVD وBluRay في الأسواق العالمية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
وأكد سامح فتحي، أنه يمتلك حقوق 6 أفلام فقط من القائمة، بينما تعود ملكية باقي الأفلام إلى قنوات مثل روتانا وART.
وشدد على أهمية الحفاظ على الحقوق الأدبية لجميع النسخ المرممة، حيث يُذكر اسمه في مقدمة كل فيلم يتم عرضه على أي منصة أو قناة.
ولفت إلى أنه لا يتقاضى مقابلًا ماليًا عن عرض الأفلام التي لا يملكها، لكنه يحصل على مقابل عن الأفلام التي يمتلك حقوقها، مثلما حدث مع عرض فيلم «قشر البندق» في مهرجان الجونة.
مدينة الإنتاج تدخل على الخط
لم تقتصر جهود الحفاظ على التراث السينمائي على المبادرات الفردية فحسب بل شهدت -أيضا- مشاركة مؤسسات رسمية على رأسها الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي التي أعلنت في تقريرها السنوي للعام المالي 2024 عن تحديث وتطوير مركز الترميم السينمائي من خلال تزويده بجهاز «إسكانر» حديث بلغت تكلفته 1.7 مليون جنيه.
ومن بين الأعمال التي شملها الترميم أفلام مثل «جعلوني مجرمًا، البؤساء، خط بارليف، الماء، والأسطى حسن»، ما يؤكد جدية التحرك نحو إنقاذ ما تبقى من التراث البصري المصري.
اهتمام دولي
في السياق ذاته، كشف الفنان حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، تفاصيل لقائه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لمصر، مشيرا إلى أن «ماكرون» ابدى اهتمامًا خاصا بمشروع ترميم الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود.
ووفقا لما ذكره «فهمي» قام ماكرون بتدوين ملاحظاته حول المشروع معربا عن إدراكه لقيمة هذا الإرث الفني.
وطرح الرئيس الفرنسي فكرة إنشاء فرع لمؤسسة «سينماتك» الفرنسية العريقة في القاهرة، بهدف تعزيز التعاون الثقافي بين البلدين -حسب تصريحات حسين فهمي-.
ولفت «فهمي»، إلى شغف ماكرون بالثقافة المصرية حيث عبّر عن إعجابه بأعمال نجيب محفوظ واستماعه الدائم لأغاني أم كلثوم، واهتمامه بالفنانة أسمهان.
رقمنة حياة الفنانين
كما يسعى رجل الأعمال خالد حميدة، إلى تحقيق نقلة نوعية في طريقة الحفاظ على التراث الفني المصري من خلال رقمنة أعمال الفنانين وتوثيق تفاصيل حياتهم الشخصية والمهنية.
لا تقتصر مهمة المشروع على الأرشفة الرقمية للأعمال الفنية فحسب بل يمتد ليشمل سرد القصص الإنسانية والتاريخية لكل فنان على حدة مما يوفر مرجعية شاملة للأجيال القادمة.
ويهدف المشروع إلى إتاحة الفرصة للجمهور لمشاهدة أرشيف الفنانين بالكامل سواء كانت أفلامهم أو ذكرياتهم الشخصية التي قد تكون مفقودة أو مهملة.
من بين النجوم الذين انضموا للمبادرة حتى الآن الفنان محمود حميدة إلهام شاهين، بشرى، بسمة، أحمد زاهر، شيري عادل، بالإضافة إلى أسرة الفنان الراحل أحمد راتب التي أبدت حماستها للمشروع من خلال انضمام ابنة الفنان، لمياء راتب، لتوثيق إرث والدها الفني.
كما يتم التفاوض مع عدد كبير من الفنانين الآخرين للمشاركة في هذه المبادرة المبتكرة.
أين ذهب التراث؟
من جانبه، قال الناقد الفني جمال عبد الناصر، إن تراث مصر السينمائي والمسرحي تعرض لخطر جسيم يتمثل في الإهمال والسرقة وغياب التوثيق والترميم ما أدى إلى فقدان أجزاء كبيرة من الذاكرة البصرية المصرية.
وأوضح «عبد الناصر» -في تصريحات خاصة لـ«النبأ»- أن عددًا من المنتجين المصريين باعوا النسخ الأصلية «النيجاتيف» لأفلامهم إلى قنوات وشركات خليجية مقابل مبالغ مالية لم يكن التلفزيون المصري قادرا على توفيرها آنذاك فأصبحت هذه القنوات تمتلك الحقوق الحصرية لعرض هذه الأفلام في حين لا يستطيع التلفزيون المصري بثها إلا بموافقة هذه الجهات قائلًا: «تراثنا السينمائي لم يعد في أيدينا».
وأضاف: «عند مشاهدة قناة نايل سينما نجد تكرارا لبعض الأفلام حيث لاحظت عرض فيلم (دموع صاحبة الجلالة) أكثر من مرة خلال شهر واحد ويعود السبب إلى أن الفنان الراحل سمير صبري الذي كان وطنيا ومحترما أهدى جميع أفلامه التي أنتجها للتلفزيون المصري ولهذا يتم تكرار عرضها بينما باع منتجون آخرون أعمالهم ما تسبب في فجوة كبيرة في المحتوى التراثي المتاح».
وأشار «عبد الناصر»، إلى أن الوضع في المسرح أكثر كارثية، معقبا: «الفنان إسماعيل ياسين قدّم ما يزيد على 300 مسرحية وكان التلفزيون المصري يقوم بتصويرها لكنها حُذفت بالكامل وسجل مكانها مباريات كرة قدم وبرامج للطبخ ولم يتبقَ سوى مسرحية واحدة كاملة متوفرة على موقع يوتيوب وهي من بطولة إسماعيل ياسين ومحمود المليجي، بالإضافة إلى فصل واحد فقط من مسرحية أخرى».
وتابع: «جهات مصرية مثل الهيئة العامة للسينما وجهاز السينما كانت تنتج أفلامًا مهمة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر لكنها لم تقم بترميم تلك الأفلام رغم أن الشريط السينمائي له عمر افتراضي وإذا لم يرمم في الوقت المناسب يتلف ويفقد نهائيا».
وأشار إلى واقعة إنقاذ فيلم «المومياء» للمخرج شادي عبد السلام قائلًا: «هذا الفيلم كاد أن يُفقد لولا أن المخرج الشهير مارتن سكورسيزي تولى ترميمه على نفقته الخاصة وعُرض بعد ذلك في مهرجانات عديدة، كما قام مهرجان البحر الأحمر -مؤخرًا- بترميم أفلام مثل (خلي بالك من زوزو) وهي مبادرة جيدة وهامة».
وشدد «عبد الناصر» على أن مشروع ترميم التراث السينمائي يجب أن يكون مشروعًا قوميًا لا يقل أهمية عن الحفاظ على الآثار؛ لأن الفيلم القديم يوثق ملامح الشارع ولهجة الناس وأسلوب الحياة وهو بذلك تراث بصري وثقافي يُعادل الأهرامات والمتاحف.
وأضاف: «عندما أشاهد نجيب الريحاني في فيلم (سلامة في خير) وهو يسير في الشارع حاملًا شنطته ويشعر بالخوف عليها فإنني لا أرى مجرد مشهد درامي، بل أرى مصر في تلك الفترة الزمنية الفيلم بعد 100 أو 50 عامًا يتحوّل إلى أثر مثل الأهرامات والمتاحف».
واختتم تصريحاته قائلًا: «ينبغي على وزارة الثقافة أن تتحرك فورا وأن تلزم المنتجين بتسليم نسخة من كل عمل للتلفزيون أو أرشيف الدولة مع إنشاء هيئة رسمية تكون مسؤولة عن جمع وترميم وحفظ التراث الفني والتواصل مع الجهات الخارجية بشكل ودي لاستعادة ذلك الفن أو الإتجاة إلى الطريق القضائي، وأعتقد أن أسر الفنانين الكبار سترحب بأي مبادرة وطنية جادة تهدف إلى حماية تراث آبائهم وأجدادهم».
اتهامات وافتراء
على الجانب الآخر، يرى الناقد الفني طارق سعد، إن ملف التراث الفني المصري من الملفات المؤرقة لأن أغلب الناس غير ملمة بأصل المشكلة رغم أن الموضوع حساس للغاية، متسائلا: «كيف لهوليود الشرق أن يكون ماضيها الفني غير محفوظ كما ينبغي؟».
وأوضح «سعد» -في تصريحات خاصة لـ«النبأ»- أن النيجاتيف الأصلي للأفلام القديمة موجود بالفعل داخل المركز القومي للسينما لكن المشكلة أن المواد المستخدمة في التصوير والتحميض والحفظ آنذاك أصبحت قديمة جدا ومع الوقت وعدم صلاحيتها تأثرت نسخ كثيرة من التراث وتعرضت للتلف.
وأضاف أن هناك نسخا من هذه الأعمال ما زالت موجودة لكنها تحتاج لترميم لكي تكون صالحة للعرض في ظل التطور التكنولوجي الحالي، متابعا: «ولهذا نرى أحيانا نسخا تالفة وأحيانا نسخا مرممة بجودة عالية بفضل جهود شركات وجهات قامت بترميمها وأعادت عرضها بشكل نقي».
وأشار إلى أن كثيرا من هذه الأعمال ظهرت مجددا على شاشات مثل روتانا بينما كانت النسخ القديمة تعرض على التلفزيون المصري ولكن بصورة غير جيدة، موضحا أن هناك مرحلة شهدت بيع حقوق عرض بعض الأعمال بهدف ترميمها لأن تكلفة الترميم عالية جدا ولا يمكن لأي جهة أن تتحملها بمفردها وبالتالي كانت الاتفاقيات تبرم مقابل حق انتفاع بهذه النسخ بعد الترميم.
وأكد «سعد»، أن الاتهامات التي وجهت للفنانة إسعاد يونس بأنها باعت التراث بصفتها منتجة وموزعة محض افتراء للتشويه وجهل بحقيقة الأمر فما حدث كان في إطار القانون وبتنسيق بين المسؤولين والورثة.
وتابع: «بعض الورثة وجدوا في هذه الأعمال ثروة حقيقية والبعض الآخر تعامل معها تجاريا لكن كل ما تم كان قانونيا وبموافقة الدولة».
وأشار إلى أن هناك شركة مساهمة تم إنشاؤها لإدارة هذه الحقوق وتمت كل التعاملات من خلالها، وبالتالي فإن ما حدث هو عملية إحياء للتراث وليس إهدارا له بل أتاح لنا كمصريين وللعالم كله مشاهدة هذه الأعمال بأفضل جودة ممكنة.
واستكمل الناقد الفني طارق سعد حديثه عن فكرة أرشفة حياة الفنانين التي يتبناها رجل الأعمال خالد حميدة، قائلا إنها فكرة عبقرية وملهمة لأنها توفر معلومات وخدمات هامة جدا لصناعة الفن إذ ما دام اهتممنا بأرشفة الأعمال لكننا كنا نغفل أرشفة حياة النجوم أنفسهم وكواليس أعمالهم وعند تقديم سيرة ذاتية لأي فنان كنا نفتقد للمعلومة الدقيقة وهذا يربك صناعة مثل هذه الأعمال.
وأكد أن وجود جهة متخصصة تجمع هذه المعلومات وتؤرشفها سيساهم في إنتاج أعمال أكثر دقة وثراء، داعيا إلى التعاون مع فكرة خالد حميدة خاصة من النجوم الشباب لتوثيق حياتهم الفنية من الآن ما سيساعد في تقديم سير ذاتية قوية ومؤرخة مستقبلا وأن فكرة أرشفة حياة النجوم تعد خطوة هامة لبناء بروفايلات حقيقية للنجوم الحاليين والقدامى.
وأشاد بفكرة المتحف الفني الخاص بالسينما الذي أسسه المنتج هشام سليمان بمجهوده الشخصي، مؤكدا أنه استطاع جمع مقتنيات وديكورات وأجهزة ومعدات تراثية تخص السينما، مؤكدا أن هذا المتحف غير هادف للربح ويعد خطوة عظيمة لحفظ التراث.
واختتم تصريحاته بدعوة لعمل مشروع فني سياحي متكامل قائلا: «لو حصل تكامل بين الأطراف الثلاثة “أرشيف السينما وأرشيف الفنانين والمتحف” سيكون لدينا واجهة سينمائية تاريخية غير مسبوقة ويمكن الاستفادة من هذا الكيان ليس فقط فنيا بل سياحيا أيضا من خلال تقديم تجربة سياحة فنية متكاملة ويستطيع السائح عمل زيارة فنية متكاملة باستخدام تقنيات حديثة مثل “الهولوجرام وأدوات الذكاء الأصطناعي” وعرض الأرشيف للجمهور الأجنبي ما سيكون مصدر دخل كبير لمصر ودعاية عظيمة للفن المصري».
الناقد الفني جمال عبدالناصر
الناقد الفني الدكتور طارق سعد