البشير: عندما يختفي القائد المتمكن

البشير: عندما يختفي القائد المتمكن

لا يُولد الفراغ، بل تتمدّد الظلال.

حين يغيب القائد، لا يتكوّن الفراغ فجأة، بل تبدأ الظلال بالامتداد؛ ظلالٌ من التردّد، ومن الحذر، ومن اجتهادات فردية تمضي دون هدى، تتخبّط في غياب البوصلة.
ومع مرور الوقت، لا تبهت القيادة وحدها، بل تضمحلّ معها تلك المعاني التي تمنح الحياة للمؤسسات: روح المبادرة، حسّ المسؤولية، ونور القرار الذي يحسم ولا يؤجّل.

في مؤسساتنا اليوم، لم يعُد كافيًا أن يجلس أحدهم على كرسي القيادة ليصنع الأثر.
كثيرون يشغلون المناصب، لكنهم يختبئون خلف اللوائح والتعليمات،
وكأنّ تجنّب الخطأ أهم من ابتكار الحل.
من أُوكلت إليهم مسؤولية القرار ينتظرون الضوء الأخضر، ومن أُتيح لهم هامش المبادرة، آثروا الوقوف على الهامش.
غدت المبادرة مثل طيفٍ عابر؛ تظهر وتختفي في بيئة مرتجفة، تُحبّ الجمود وتهاب الحركة، ويُثقلها الروتين.

مشكلتنا ليست في نقص القوانين، بل في غياب من يملك الشجاعة والعقل الراجح لتفعيلها، ولا في غياب الكفاءات، بل في قِلّة من يحرّرونها من عقدة الخوف، ومن نظامٍ يُكبّل لا يُمكّن.

فهل نحن أمام أزمة أفراد؟ أم أمام أزمة أعمق من ذلك… أزمة ثقافة؟

غالبًا، هي أزمة ثقافة؛ ثقافة تمجّد الامتثال وتكافئ الصمت، وتُفضّل النسخ على الإبداع، والانتظار على الإقدام.
ثقافة تعتقد أن إدارة الأمور تكفي، بينما تغفل أن القيادة تعني أكثر من التنسيق والجدولة؛ إنها تعني الإلهام، وتحريك الساكن، والجرأة على السير في دربٍ لم يُجَرّب بعد.

بالرّغم من ذلك، هناك ومضات أمل…
نراها في أولئك الذين لا يصنعون الضجيج، بل يمضون بالفعل، في من يؤمن أن القيادة ليست موقعًا ولا رتبة، بل خُلُقٌ يُمارَس، وبصيرةٌ يُهتدى بها، كما ان استعادة القيادة لا تأتي من جلد الذات، بل من إعادة البناء:
نبني بيئة عمل تُكرِّم السؤال ولا تُخيف منه،
وتعليمًا يُعلّم التفكير لا الحفظ، ويربّي على المسؤولية لا على الامتحان، ونظام مساءلة يحمي النزاهة دون أن يخنق الاجتهاد، ووعيًا عامًا يدرك أن القائد ليس من يُصدر الأوامر فقط، بل من يحمل الهمّ، ويُشعل الفكرة، ويُمهد الطريق للآخرين.

فلنسأل أنفسنا ببساطة وصدق:
ما الذي يعيد للقيادة معناها؟
هل هو تعليم يُوقظ العقول؟
أم مساءلة عادلة تنبّه ولا تُهين؟
أم مناخٌ يحتضن الجرأة ولا يعاقبها؟

ربما كلّ ذلك…
وربما، قبل كل شيء، هو الإيمان بأن غياب القائد لا يعني الغياب الكلي، بل لحظة ينبغي أن توقظ فينا جميعًا إحساس المسؤولية، فالقائد، في النهاية، ليس شخصًا يُنتظر،
بل ثقافة تُتَشارَك.
ولن نستعيد المعنى الحقيقي للقيادة،
إلا حين نكفّ عن البحث عن “القائد”،
ونبدأ في صناعة القيادة في كل زاوية من مؤسساتنا، في كل قرارٍ صغير، في كل لحظة مسؤولية.
عندها فقط،
لن تكون القيادة لقبًا على ورق، بل روحًا تنبض في كل تفصيلة.
لن تكون ظلًّا يتبع فردًا، بل حضورًا يسكن الجماعة.
لا رتبة تُطلب، بل معنى يُعاش.

للحديث بقية في الحلقة القادمة، “عبد المأمور”

م. عامر البشير – وكالة عمون الإخبارية